الإسلاميون وغياب ثقافة التقاضي/ د. عبد الله بيان
تانيد ميديا : في العام 2018، وتعليقا على طول المدة الذي أخذها إعداد تقرير لنيويورك تايمز، يتناول تاريخ الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد اترمب، مع التهرب الضريبي (حيث تطلب ذلك أكثر من سنة)، قال الصحفي المعد للتقرير بأن السبب هو جمع الأدلة. لأن الصحيفة تدرك بأن أي سطر غير مدعوم بالوثائق والأدلة سيكون نقطة ضعف لها أمام المحاكم. ولأن اترامب “لن يرحمها” إذا لاحظ ثغرة مناسبة في التقرير. مع أنه يومها هو رئيس البلاد.
عندنا، بدأ يتزايد الوعي بأهمية ذهاب كبار الشخصيات السياسية والاجتماعية إلى القضاء كأسلوب مدني لحفظ الحقوق وترسيخ قيم العدالة. ورغم قابلية استغلال هذه الممارسة بشكل خاطئ من طرف النافذين، إلا أنها تظل وسيلة قانونية يستأهل ترسيخها الإشادة والتنويه. فسكوتك عن شخص ما يتهمك بارتكاب جريمة مخصوصة، بعينها وبتفاصيلها الموهومة، مهما بدت محض افتراء بالنسبة لك، لا يخدم إلا إشاعة الكذب والتلفيق بين العامة في أحسن أحواله، هذا إن لم يعنِ مع التكرار تصديق بعض الناس لتلك الفِرية. فكذبة يعرفها الجميع خير من حقيقة لا يعرفها أحد.
للأسف، طبيعة “أهل لخيام” بأن “الكبير ما يرد راصو على الصغير” غاية في السلبيّة وترسيخ حالة اللا قانون في مجتمع له طبيعة “إعلامية” خاصة، تنتعش فيها الإشاعة والتساهل في التلفيق على الخصوم، واعتبار التصدي لذلك تضييقاً على الكلمة.
وكنت قد كتبت عن هذا الموضوع قبل حوالي خمس سنوات. وظل يسعدني دوما ذهاب الشخصيات البارزة إلى القضاء؛ مثل ما فعل الوزير المختار اجاي 2019 (ولم يكن وزيرا حينها)، وكذلك النائب السابق محمد غلام الحاج الشيخ.. وقبلهما كانت الدعوى التي تقدم بها الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، رحمه الله، أيام رئاسته في غاية الرمزية المدنية. وقد احتفى بها الفاعلون في القضاء لذات السبب، كما حدثني أحد المكلفين يومها بالملف.
ومع ذلك يبدو الإسلاميون بالذات وكأنهم يعانون من خلل مزمن في هذا الجانب الهام من الحياة المدنية. فعلى الرّغم من أن تحيّز القضاء ضد المعارضين، والخوف من ترميز “النكرات”، وحضور الأبعاد الاجتماعية في أي دعوى قضائية موريتانية، من الأعذار الموضوعية المثبّطة، إلا أنه يجب أن يُعلم أيضاً بأن إدراك المفترين في قرارة أنفسهم لحجم التلفيق الذي يقومون به تجاه الإسلاميين، يجعل مجرّد تحريك أي دعوى قضائية، مهما حدث معها من هبّات تعاطف لحظي، كافية للجم ألسنتهم عن المعني إلى الأبد، والشواهد على ذلك عديدة ناطقة.
ومن الغريب، الذي يخرج من نفس المشكاة، أن تلاحق منصات وسائل التواصل الرئيسية تدوينة نكرة هنا أو هناك خوفا من أن تؤثر على ما تعتبره قناعة لها، ويقوم بعض مشاهير الساسة في الدول الديموقراطية بتكليف من يتتبع التعليقات على حساباتهم لنفس السبب، ثم تجد بعض الإسلاميين لا يرى لذلك أي تأثير، فيتركون -عن قصد- التعليقات الجارحة المزيفة، بل والتي تدعو للعنف ضدهم هم أحيانا، منثورة على حساباتهم التي يتابعها عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف في بعض البلدان، لكي لا يوصمون بالتضييق على حرية التعبير!
شخصيا، وباستثناء الرئيس محمد غلام مؤخرا، لا أذكر أن إسلاميا موريتانيا واحداً، ناشطاً أو قائداً، حرك أي مسطرة جزائية ضد أي من المفترين عليهم، على كثرتهم. مع أنك ترى أشخاصاً منهم بأسمائهم وأحزابهم وتوجهاتهم يُتهمون بالإرهاب والعنف والقتل غير المباشر (الفتوى بالقتل)، والانتساب لداعش والقاعدة (حتى في حق من برأتهم محاكم دولية من هذه الصفات). كما يتهمون بتلقي الأموال والرشاوى الضخمة. وليس “سجال” قناة العربية منا ببعيد. ومع هذا يتجاهل كل أولئك ما لردّات فعلهم القضائية المدنية من دور إيجابي في ترسيخ ثقافة الصدق وتحري الدقة، وحفظ حريّات الناس وحقوقهم.
إنه، للأسف، خلل في الإيمان بقيم الحرية من حيث يُتصوّر الإعلاء من شأنها.