الفساد…..مقاربات الوقاية والمحاربة/القاضي عبدالله اندگجلي
تانيد ميديا : يعتبر الفساد من ابرز الظواهر التي واكبت ظهور المجتمعات وتطور انظمتها عبر ما مرت به من محطات تاريخية طبعت تلك الظاهرة بطابع الانتشاروالتعقد والشمولية والعالمية ….لتشكل في حقيقتها وتجلياتها خرقا سافرا للقانون والنظام تحقيقا لمصالح اقتصادية اواجتماعية أو سياسية…. لفرد أو مجموعة بعينها وليؤدى تفاقم آثارها الي زعزعة استقرار المجتمع ويهدد كيان الدولة وسلامتها بما يتسبب فيه من تقويض للانظمة والمؤسسات القائمة .
يتصور البعض أن الفساد ينحصر في مجرد ما يصدر من سلوك وممارسات ذات مظاهر اقتصادية أومالية تشكل انحرافا لموظف عام قصد تحقيق مكاسب مالية كالرشوة والاختلاس والمتاجرة بالنفوذ واساءة استغلال الوظيفة والاثراء غير المشروع ………الخ اومايطلق عليه مفهوم الفساد المالي أو الاقتصادي .
صحيح ان الفساد المالي يؤثر بشكل قوي و فعال علي جميع مناحي الحياة في البلد نظرا لمايترتب عليه من عجز مالي و هدر للموارد الاقتصادية وانتشار للفقر والبطالة وفشل في جلب الاستثمارات وهجرة الادمغة والكفاءات …… الخ الا انه لايعد النوع او المظهر الوحيد من مظاهر الفساد وانما تعد الممارسات الغير قانونية في المجال الاداري والسياسي وتلك المنافية للقيم والاخلاق…….. من قبيل انواع الفساد .
فعلي المستوى الاداري يتخذ الفساد مظاهر متعددة كتفشي البروقراطية والانحراف الوظيفي والاداري والتنظيمي ومايسببه من تسيب وعدم احترام لاوقات الدوام وافشاء لاسرار الوظيفة وعرقلة سير العمل والتأثير علي ماتصدره الادارة من قرارات وماتقوم به من انشطة ……الخ
اما علي المستوى السياسي والاجتماعي …. فان ممارسات الفساد تتخذ العديد من المظاهر التي من بينها انعدام الشفافية في الممارسة السياسية وتفشي التمويلات غير المشروعة للاحزاب السياسية وتقديم او محاولة تقديم اوعرض منافع مادية او معنوية من اجل التأثير علي اختيارات الناخبين وتنامى الجريمة وانتشارها وتوسع دائرة الفقر والتهميش والشعور بالظلم مما يؤدي الي الاحتقان الاجتماعي واتساع الفوارق الطبقية والقضاء علي اللحمة الاجتماعية ………الخ.
استشعارا منها لما يتسبب فيه الفساد من اضرار كبير وماتفرضه الوقاية منه ومحاربته والقضاء عليه من تحرك علي أكثر من جبهة نظرا لما يمتاز به من تشعب وانتشار في مختلف مفاصل الدولة وما يتطلبه من قوانين رادعة واجراءات وتدابير احترازية واستحداث لآليات ومؤسسات قادرة علي الوقاية من تلك الظواهر ، فقد بادرت بلادنا بالانضمام لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الصادرة بتاريخ 30/10/2003 وعلي ضوء المصادقة عليها تم بذل جهد كبيرة لتحديث وتحيين ترسانة البلاد القانونية ومواءمتها مع ما تضمنته الاتفاقيتين الأممية والعربية المتعلقتين بمكافحة الفساد . فأصدر المشرع المويتاني القانون رقم 014/2016 المتعلق بمكافحة الفساد فكانت احكامه استجابة لتكييف المنظومة التشريعية الوطنية مع الالتزامات الدولية المصادق عليها وجاءت مطابقة لمعظم ما تضمنته الاتفاقية الدولية من مبادئ تتعلق بمحاربة الفساد فلم يقتصر مضمونه علي احكام التجريم والعقاب وتحديد اجراءات المتابعة بل تجاوزها الي وضع آليات لدعم وتفعيل التعاون الدولي في مجال استرداد الموجودات المتعلقة بجرائم الفساد.
ومواكبة لجهود محاربة الفساد فقد أصدر المشرع مجموعة من النصوص القانونية قصد محاربة العديد من الانحرافات السلوكية ذات الصلة بالفساد كتلك المتعلقة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب والصفقات العمومية والاستثمار والمخدرات والتهريب والمتاجرة بالاشخاص ……الخ . كما تم دعم آليات المراقبة وادخال المزيد من الشفافية في التسيير من خلال ماتمت اضافته من تحسينات علي القوانين والنظم المتعلقة بتسييرالاموال العمومية ومراقبة الشأن العام . ولضمان المزيد من الشفافية وحماية الممتلكات العمومية ومحاربة الفقر والتهميش و الاقصاء وانتشار الجريمة …… فقد اصدر المشرع القانون رقم 54/2007 المتعلق بلجنة الشفافية المالية للحياة العمومية والتي عهد اليها بتلقي تصاريح كبار الموظفين بالدولة بممتلكاتهم بعد تعيينهم ، كما تم انشاء المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الاقصاء….الخ.
وعلي الرغم مما تم بذله من جهود كبير ووضعه من مقاربات لمحاربة الفساد والوقاية منه يمكن القول ان ماتحقق في هذا المجال كان دون طموح وتوقعات المتتبعين للشأن العام مما يستدعي تقييم ومراجعة ماتم قطعه من خطوات في مجال محاربة الفساد حتي تتسنى معالجة ماتم رصده من مكامن القصور والخلل .في تلك العملية .
ومهما يكن من امر فلابد من الاخذ في الاعتبار عند معالجة تلك النواقص الملاحظات والمقترحات التالية:
1) تفعيل دور الهيئات المكلفة بالرقابة والتفتيش سواء منها تلك المكلفة بالرقابة السابقة كالبرلمان ووزارة المالية اوتلك المكلفة بالرقابة اللاحقة كمحكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة والمفتشيات الداخلية…… وترتيب مايتعين ترتيبه من آثارعلي ماتتقدم به تلك الجهات من تقارير .
2) الصرامة في تطبيق احكام القانون رقم 017/2019 المتضمن مكافحة غسيل الأموال وتمويل الارهاب من خلال تنشيط وتفعيل دور الهيئات المكلفة بالضبط والرقابة فيما يتعلق بحركة الأموال والرساميل ، كالوحدة المكلفة بالتحريات المالية واللجنة الوطنية لمكافحة غسيل الأموال والبنوك الوسيطة وغيرها من المؤسسات المالية الاخرى ……الخ
3) مراجعة نظام الولوج للوظائف من خلال وضع معايير شفافة وموضوعية تعتمد علي المؤهل العلمي المناسب وعلي مبدأ الكفاءة والجدارة ….سبيلا للقضاء علي مادرج الاعتماد عليه للولوج الي الوظائف من ممارسات شكلت ابشع مظاهر الفساد كالوساطة والقرابة ولرشوة ……الخ
4) مراجعة نظام الرواتب والأجور وفق مايضمن للموظفين والعمال العيش الكريم ويحقق الأمن الوظيفي ويمنع الموظف والعامل من اللجوء لممارسة الفساد بكافة اشكاله من رشوة واختلاس ….الخ
5) تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال ازالة العقبات التي تحول دون التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية …..وتسهيل الولوج للخدمات ايا كان نوعها مع ااقرار مبدأ العقوبة والمكافأة في التعاطي مع اداء الموظفين العمومين وغيرهم .
6) اعادة هيكلة وتوسيع صلاحيات لجنة الشفافية المالية في الحياة العمومية لتشمل بالاضافة الي مالديها من صلاحيات تتعلق في الأساس بتلقي التصريح بالممتلكات ، اعداد سياسة وطنية ناجعة لمحاربة الفساد والوقاية منه مع وضع برامج للتكوين والتحسيس حول الفساد وماينجم عنه من مخاطر ومنحها سلطات واسعة لمراقبة الصفقات العمومية بوصفها المجال الأكثر عرضة لممارسة الفساد والزامها كل سنة باعداد تقرير ترفعه لرئيس الجمهورية يتضمن استعراض وتقييم ما تم القيام به من نشاطات تتعلق بمكافحة الفساد والوقاية منه مع الاشارة الي ماتمت معاينته من نواقص ورصده من مقترحات وتوصيات ……..الخ
7) لمواجهة اسباب الفساد وبعض الآثار المترتبة عليه كالفقر والتهميش والاقصاء ….. انشأت الدولة المندوبية العامة للتضامن الوطني ومكافحة الاقصاء وعهدت اليها مهمة توفير البنية التحتية اللازمة للقضاء علي ماتعانيه الفئات المستهدفة سواء تعلق الأمربانشاء وتشييد المؤسسات التعليمية او المرافق الصحية او المشاريع المدرة للدخل والقابلة للاستدامة…….وبالنظر الي طبيعة تلك الاعمال وما يتطلبه تشييدها تحقق نتائجها من جهد ووقت………فمن غير المستغرب تأخر انعكاس اثارها علي عملية محاربة الفساد .
والله اعلم
القاضي / عبد الله اندكجلي