الفقراء.. مهمشون إلى الأبد، أم وقود لثورة قادمة؟
تانيد ميديا : إنجازات عملاقة، جهود جبارة، مكتسبات ضخمة … تحققت على مدى العقود الماضية بفضل التوجيهات النيرة والسامية، بل شديدة السمو أحيانا؛ لرؤساء بجلهم الشعب، كل الشعب تقريبا، ورفعهم إلى مقامات سامقة تليق بالأباطرة والقياصرة والقادة العظام ممن تركوا بصماتهم جلية على بلدانهم وفي وجدان شعوبهم!
فمن رئيس فجر الأرض ينابيع وثورات زراعية وصناعية وتكنولوجية إلى رئيس للفقراء ثم رئيس رحيم بالفقراء، تبدو موريتانيا أو هكذا يراد لها أن تبدو، بمثابة جنة الفقراء على الأرض؛ بينما تكفي نظرة خاطفة للاطلاع على واقع مزر، تظهر فيه هذه البلاد، بإنسانها المقهور وبمدنها المدمرة وأريافها البائسة وبناها التحتية الهزيلة، وكأنها خرجت للتو من حرب طاحنة أو لكأن الأرض انشقت عنها فجأة فقذفت بها من ذاكرة أحد العصور التاريخية السحيقة.
بالفعل تبدو البلاد كذلك وأكثر رغم كل تلك الانجازات والمكتسبات وبعد عقود من الإصلاحات الهيكلية ومن برامج محاربة الفقر وبشكل أخص رغم أنف استراتيجية النمو المتسارع والرفاه المشترك! لا يتأكد ذلك فقط من خلال الصورة العامة لدولة منكسرة يستمرئ حكامها الاستجداء لملء جيوب الفاسدين ولا من خلال تفشي روح التفاهة والرداءة وانعدام حس المسؤولية؛ بل أيضا من خلال رداءة ما توفره من خدمات وضآلتها:
نسبة توفر الكهرباء في الوسط الريفي: 6%، النقاط الصحية والمراكز الصحية: 33.6%، البنى التحتية للتعليم الثانوي: 26.2%، الشرطة: 16.8%، المستشفيات: 15.5%، الخدمات القضائية: 12%، الخدمات المصرفية: 11.2%، الصرف الصحي: 9.8%، الفضاءات الشبابية: 7.5%، معدل الولوج إلى الماء الشروب: 65.4%، معدل ولوج الأسر إلى الشبكة الكهربائية: 38.8%، نسبة التزود بالماء في المناطق الريفية وشبه الحضرية: 42%.
هذا مع بقاء الأمية في حدود 36.5% والفقر عند 31% ومع نسبة بطالة تبلغ 30.1% على المستوى الوطني، بينما تتجاوز في مدينتي نواذيبو ونواكشوط 34% و 31% على التوالي، في حين تمس هشاشة الشغل الحضري 51.58% من الحضريين ويبلغ معدل وفيات الأطفال 115 في الألف وتسجل وفيات الأمهات إحدى أعلى نسبها في المنطقة بمعدل 582 وفاة لكل مائة ألف ولادة حية! إضافة إلى أن 35.1% من الأسر لا يملكون مراحيض في مساكنهم!
ولكم أن تتصوروا ما ينجر عن مثل هذا الفشل المتراكم من مآس بشرية ومن تضييع للثروات ودمار لبيئة يبتلعها التصحر يوما بعد يوم في غفلة من أهلها ويجثم على مقربة منها محيط متحفز يهدد بابتلاع أهم مدنها! وفي دولة تقف عاجزة منذ استقلالها عن تحقيق إنجاز واحد، في أي مجال، يبرر لشعبها إن رآه أو تذكره أن يشعر بالفخر! دولة لا تحسن غير صناعة التهميش وإعادة إنتاج الفشل والتمييز بين مواطنيها على أسس تتلون بحسب أمزجة قادتها وانتماءاتهم القبلية والجهوية والأيديولوجية!
لم يكن صدفة إذا أن تنتهي البلاد إلى ما آلت إليه اليوم من انحطاط على مختلف الصعد، وهي تتهاوى تحت مطارق الثالوث المخيف (الجهل والفقر والمرض)، مستسلمة لأمراض الشعبوية والوصولية والزبونية ولبيروقراطية حقيرة آلت على نفسها أن لا تسمح بنجاح أي عمل تنموي يعضدها في ذلك تدني مستوياتها الفنية والثقافية وجشعها منقطع النظير لاختلاس المال العمومي إضافة إلى سوء طوية دفين تغذيه رغبة جامحة في توارث الألقاب والامتيازات.
وهي فوق كل هذا وذاك مبتلاة طوال هذه العقود بقيادات تفتقر إلى المؤهلات العلمية والقيادية والنفسية بل والأخلاقية أحيانا، وبنخب بعضها منغمس في رذائل البيروقراطية المرتشية وبعضها منسحب من الحياة العامة أو مستسلم لمجتمع قروسطي يعيش على هامش التاريخ ويدفعه الجهل والمكابرة إلى محاولة تعويض عجزه وعيوبه بالمغالاة في تمجيد الذات واختلاق الأمجاد والبطولات والخوارق والأصول الزائفة، ليبدو وهو على هذه الحال من الشقاء والفاقة وضحالة الفكر وكأنه خير مجتمع أخرج للناس!
ليس صدفة إذا أن تعج هذه البلاد بالمظالم والتسيب والتعسف والبغي كما لم تعج بها أية بلاد أخرى، ولا أن يتفشى الفساد وتتشعب أذرعه ويتشظى الشعب الواحد إلى هويات متقاتلة تمكر كل منها بالأخريات، وتطل التشكيلات المجتمعية ما قبل الدولة بوجوهها الدميمة زاحفة على ما تبقى من المجال العام، متأهبة لوأد أي بصيص نور يجاهد ليسطع في ظلمة النفاق ، وحالمة بتأبيد سيطرتها على عقول مستقيلة أنهكها البؤس والتجهيل.
شيء إيجابي واحد يمكن أن يضرب به المثل في هذه البلاد لعله قدرتها على الصمود في وجه معاول الهدم، لكن إلى متى وقد بلغ السيل الزبى والقلوب الحناجر والنفوس التراقي؟ وما مدى قدرة المستفيدين من الوضع الراهن على الصمود في وجه الحراك المطلبي المتنامي والمتسم بمستويات مخيفة من العنف؟ وحتى متى سيظل الحظ يحالفهم في تأجيل انطلاقة قطار التغيير ضمن سياق عالمي مشجع ووسط منطقة ملتهبة تجتاحها الثورات والانتفاضات والحركات المسلحة؟
استقطاب طبقي حاد
تبدو موريتانيا اليوم منقسمة أكثر من أي وقت مضى بين طبقتين رئيسيتين: طبقة حاكمة تتباهى بنياشينها وثرواتها وألقابها وطبقة محكومة من المهمشين تقاتل يوميا من أجل تأمين لقمة العيش من دون أن تنجح أغلبيتها في تحقيق ذلك. بالطبع تملك الدوائر العليا من الطبقة الحاكمة كل شيء تقريبا، تهيمن على سلطة البلاد ومواردها وتتحكم في مصائر شعبها، بعضها ورث مكانته نتيجة نبل أصله وبعضها نتيجة تألقه في المؤسسة العسكرية أو في مجال الأعمال بينما تسلق إليها البعض الآخر عبر سلالم مناصب الإدارة العليا و”الهيكلة” و”الزيدنة” والوساطة.
توسعت هذه الطبقة خلال العقود الماضية بإلحاق الدوائر العليا من برجوازية صغيرة كانت قد بدأت في التشكل بعد الاستقلال قبل أن تفترسها قوى السوق المتوحشة وتدحرج قاعدتها العريضة شيئا فشيئا نحو طبقة المهمشين، كما تميزت الطبقة الحاكمة بكثير من المرونة في انتقال مركز التأثير بين مكوناتها تبعا لتغير الحكام والحكومات ولصعود وأفول القوى التزميرية والقبلية والمالية الملحقة بهم.
بالرغم من رغبتها العارمة في استمرار سيطرتها على الدولة والمجتمع والاستغلال الإجرامي لموقعها المهيمن، تمتاز هذه الطبقة الهجينة والانتهازية بمستوى غير يسير من قصر النظر يجعل طموحها منحصرا في تحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الخاصة، من دون اكتراث لما تتسبب فيه من أضرار للدولة ولمصداقيتها كطبقة؛ مكتفية من حين لآخر بتدبير ثورة من داخل القصر عبر الانقلاب أو الانتخاب لإيهام الشعب بوجود رغبة في الإصلاح حتى لا تنطفئ جذوة الأمل ويحصل ما لا تحمد عقباه.
من جانبها تتشكل الطبقة الهامشية من جماهير الشعب العريضة على شكل هرم يحتل المنحدرون من البرجوازية الصغيرة قمته، فيما تكتظ قاعدته بالعمال والفلاحين وجيوش فقراء الحضر والريف والعاطلين عن العمل والعمال المياومين والباعة المتجولين والمتسربين من التعليم وأصحاب الاحتياجات الخاصة والمتسولين … إلى غير ذلك من المواطنين المنسيين في وطنهم والمحرومين من ثمار تنمية تتحدث عنها الطبقة الحاكمة بكثير من الديماغوجية لكن من دون أن يرى لها أي أثر على الواقع.
جربت هذه الطبقة وعود الحكام الزائفة، وانساقت أكثر من مرة خلف الشعارات البراقة والآمال الخادعة وتحملت الخيبات تلو الخيبات؛ دفع الإحباط بعض شرائحها إلى الاستسلام وأحيانا إلى الارتماء في أحضان هذه القوة المعارضة أو تلك، غير أن الحيف دفعها أحيانا أخرى إلى المقاومة بل المواجهة بما في ذلك استخدام العنف للتعبير عن مدى السخط الذي تشعر به ولفرض تحقيق المطالب التي لا تتحمل التأجيل.
احتلال المجال العمومي
مع ارتفاع معدل التحضر وانتشار التعليم وتكرار التمثيليات الانتخابية، بدا أن وعيا جديدا بالحقوق بدأ ينتشر داخل أوساط طبقة المهمشين من فقراء الحضر مما نجمت عنه حركة مطلبية عرفت تناميا غير مسبوق خلال العقد الأخير وكادت أن تخرج عن السيطرة في بعض الأحيان نتيجة قوة وحجم الظلم المسلط على بعض شرائح هذه الطبقة، وأحيانا أخرى نتيجة رعونة الإدارة أو الاستغلال السياسوي لمعاناة المهمشين.
وفي حين ظل مهمشو الريف الحلقة الأضعف ينتظرون تنمية محلية تأخرت طويلا، لم يجد مهمشو الحضر الوقت الكافي للانتظار إذ كان عليهم أن يخلقوا واقعا على الأرض لتحسين ظروف حياتهم أو على الأقل لتلبية احتياجات لا تتحمل التأجيل مثل المأوى والمأكل، فبدأت عملية “احتلال” واسعة للمجال العمومي تجسدت في مرحلتها الأولى على شكل أحزمة بؤس تحيط بالمدن قبل أن تتحول إلى طريقة حياة وخيار تنموي تظل السلطات تلهث خلفه فيما يشبه الماراتون الأبدي.
لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فكان على عملية الاحتلال أن تطال الساحات العمومية داخل المدن –التي سلمت من فتك النافذين والإداريين الفاسدين- وأن تمتد إلى الأسواق وإلى أرصفة الشوارع، بل إلى الملكيات الخاصة غير المستخدمة وحتى إلى الأحياء الراقية لتظل تذكر المترفين من أبناء الطبقة الحاكمة وضيوف البلاد بحجم التفاوت بين أفراد المجتمع الواحد وباتساع تفشي الفوضى داخله.
من دون هذه العملية، هل كانت السلطات ستوزع عليهم القطع الأرضية وتشق الطرق وتوفر خدمات أساسية مثل الماء والكهرباء والصحة والتعليم؟ هل كانت لتمنحهم أماكن تجارية داخل الأسواق أو أسواقا خاصة بهم؟ هل كانت ستصمم لهم كل تلك البرامج والمشاريع التي بالرغم من فشلها تظل شاهد إثبات على حقوق مكتسبة وإمكانات متاحة وعلى فرص ضائعة؟ وما الذي يمكن أن يستخلصه المهمشون من تجربة شاقة وطويلة الأمل مع خرق قوانين الدولة والاعتداء على ممتلكاتها وتحقيق النجاحات والمكاسب المتتالية عبرها؟ وأي انعكاس محتمل لذلك على حسم الصراع الدائر بين الطبقتين على السلطة؟
شيء ما في الأفق؟
تحمل الأحداث الأخيرة التي جرت في مناطق متعددة من البلاد، مؤشرات بالغة الدلالة على خطورة المنعرجات التي قد تتطور باتجاهها الأوضاع، ليس فقط لأن الأجيال الجديدة من المهمشين باتت أكثر وعيا والتصاقا بالحقوق، وأكثر عدوانية تجاه الدولة وممتلكاتها وحتى تجاه رجالاتها؛ بل أيضا لتضخم أعداد هذه الأجيال وارتباطها المكثف عبر الشبكات الاجتماعية وخضوعها باستمرار لحملات تحريض جهنمية تنبع من منطلقات متباينة وإن اتفقت على ضرورة وضع حد للوضع القائم مهما كلف ذلك من ثمن.
ينضاف إلى ذلك أن تطورا قد حصل خلال الفترة الأخيرة على الأقل في نقطتين رئيسيتين هما: تراخي قبضة التشكيلات المجتمعية التقليدية على أعضائها (والتحولات الجارية في المجتمع السونونكي أفضل دليل على ذلك) وكذلك تراجع تأثير الحركات الأيديولوجية والسياسية بشكل عام (سواء في السلطة أو المعارضة) التي مثلت بديلا للأفراد عن تنظيماتهم القديمة. فهل يعني ذلك بأننا قد ولجنا إلى “عصر الجماهير” بكل طاقاتها الخلاقة وقدراتها التدميرية الفائقة؟ وأي تحد يشكله ذلك لنظام ما زال يعتمد على الأساليب والقنوات القديمة في تزييف وعي الجماهير و”تشبيك” قادتها المفترضين؟
ما تمكن ملاحظته أننا على الأقل دخلنا تلك الفترة الانتقالية التي تفصل بين مرحلة الوصاية المسلم بها على الشعب من طرف نخب أنانية وماكرة وبين مرحلة وعي الحقوق والإمكانات والرغبة القوية في التخلص من قيود أنظمة الاستبداد والفساد، وخصوصا في كسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها البلاد مع هذه الأنظمة والتوافق حول عقد اجتماعي جديد يصبح بموجبه الحكام خدما للشعب وليسوا جبابرة ينهبون خيراته ويسومونه سوء العذاب.
فهل يمكن لذلك أن يتم عبر التعهدات الفوقية التي لا تعرف طريقها إلى التطبيق، أو عبر الإكراميات الهزيلة والمشفوعة بسيول المن والأذى؟ أم تراه يتحقق عبر الحوار بين هيئات حولها الجشع وسوء التدبير من أحزاب سياسية إلى أكشاك عائلية أو هياكل فارغة من السند الشعبي والمشروعية التاريخية؟ أم أننا أمام حراك مطلبي متصاعد يمثل مقدمة لمد جماهيري واسع قد يأخذ شكل انتفاضات عنيفة أو حتى ثورة شعبية ولو في مفهوم “بيتر أمان” حين ينظر إليها على أنها “انكسار مؤقت أو طويل الأمد لاحتكار الدولة للسلطة، مصحوب بانخفاض في الطاعة”؟
ما يبدو جليا أن جيوش فقراء الحضر، بفعل الضغط المستمر على قواهم الشرائية المنهارة أصلا، قد أصبحوا في أوضاع مأساوية تفوق قدراتهم على التحمل، وأن أغلبية من بينهم باتت تفهم مكمن الداء وعلى استعداد للعب دورها التاريخي؛ هذا إضافة إلى أن الطبقة الحاكمة بفعل خلافاتها وتهالك روحها المعنوية فقدت كل قدرة على الانجاز وإلى أن حالة التراخي والتراجع الحالية في العديد من المجالات يمكن أن تشكل القشة القادرة على أن تقصم ظهر البعير، في انتظار الشرارة المؤذنة بميلاد حالة ثورية قد تلحق البلاد بالزمن العربي المشحون بالانتفاضات وأنصاف الثورات والثورات.
نقلا عن مجلة مجابات
