الأستاذ يعقوب السيف يكتب: محاولة لتقويم إعمال آلية الدفع بعدم الدستورية

تانيد ميديا : الدستور هو قانون القوانين، ولتلك الصفة والمكانة تتبنى كل منظومة قانونية، فيما يعرف اصطلاحا بمراقبة دستورية القوانين، آلية تسعى من خلالها لضمان مراعاة ما صدر ويصدر منها لمقتضياته.
على أساس طبيعة العضو الذي تسند له تلك الوظيفة يمكن التمييز عادة بين نمطين من الرقابة؛ قضائية: تنصب على القوانين النافذة وتضطلع بها المحاكم.
وسياسية: تمارس على القوانين قبل صدورها، ويعهد بها لجهاز يختار أعضاؤه على أساس المحاصصة السياسية.
تاريخيا تعود النشأة العصرية للرقابة القضائية لدستورية القوانين إلى العام 1803 بمناسبة اجتهاد للمحكمة الفدرالية الأمريكية برئاسة القاضي جون مارشال في قضية (ماربري- Marbury ضد ماديسون- Madison)، أعطت فيه لنفسها مراقبة دستورية القوانين، ثم تمت لا مركزة ذلك التوجه ليكون لمحاكم الولايات، ومنها لبقية دول العالم بصورته تلك أو بشكل ممركز.
أما الرقابة السياسية فصورتها جهاز “المجلس الدستوري” الذي أوكل له دستور 4 أكتوبر 1958 الفرنسي رقابة دستورية القوانين؛ ففرنسا التي تبنت ثورتها أفكار: جان جاك روسو عن سمو الإرادة العامة وعصمتها من الزلل، ومونتسكيه بشأن اقتصار دور القضاة على تطبيق القانون، لم تكن لتستسيغ أن يكون للقضاة أن يراقبوا عمل نواب الشعب؛ لذلك جاءت توليفة جهاز المجلس الدستوري بأعضاء يختارون من جهات ذات طبيعة تمثيلية (رئيس الجمهورية –رئيس الجمعية الوطنية –رئيس مجلس الشيوخ) لأداء عمل قضائي بطبيعته.
في موريتانيا، ومنذ صدور دستور 20 يوليو 1991، النافذ، أسندت للمجلس الدستوري رقابة دستورية القوانين قبل صدورها، وجعل ذلك في صورتين:
– وجوبية بالنسبة للقوانين النظامية، والنظام الداخلي للجمعية الوطنية.
-اختيارية بالنسبة للقوانين العادية، عندما يقرر رئيس الجمهورية أو رئيس الجمعية الوطنية أو ثلث نواب الجمعية الوطنية عرضها عليه.
-وتجوزا يمكن إضافة حالة بين البينين، تتعلق بوضعية الاتفاقيات الدولية: قياسا لها على القوانين النظامية، بحكم مرتبها في الهرمية القانونية “سلطة أعلى من سلطة القانون”(المادة 80)، وسبيلا للحيلولة دون أن ينضاف عدم انسجام القوانين مع النصوص التعاهدية إلى احتمال عدم انسجام الإثنين مع النص التأسيسي.
وأيضا بحكم توجيه الدستور نفسه، بشكل شبه صريح، إلى عرضها على المجلس قبل التصديق عليها، حين نص في (المادة 79/جديدة) على توقيف التصديق على أي التزام دولي يحوي بندا اعتبره المجلس الدستوري مخالفا للدستور.
لاحقا، طرأ مع صدور القانون الدستوري رقم:2006-014، بتاريخ :12 يوليو2006، أن أصبح من حق أي شخص في “دعوى أصلية” الطعن بعدم دستورية القوانين النافذة قبل صدور الدستور وتحمل مقتضيات غير منسجمة مع الحقوق والحريات الدستورية. (المادة 102/جديدة)
ومؤخرا، جاء التغيير الأهم على الإطلاق، مع القانون الدستوري الاستفتائي: 2017-021، بتاريخ :15 أغشت 2017، وذلك عندما نصت الفقرة الأخيرة من (المادة 86/جديدة) على أنه:” يخول المجلس الدستوري اختصاص التعهد في شأن دعوي بعدم الدستورية أثيرت أثناء محاكمة، وذلك متى دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي يتوقف عليه مآل النزاع يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.”
وقد انقضت فترة زمنية معقولة منذ إقرار آلية الدفع بعدم الدستورية، وبمناسبة دفوع قدمت على أساسها في قضايا رأي عام، سيكون من المناسب تقديم تقويم موضوعي عن ما تحقق من المنتظر من إقرار تلك الآلية
ظرفية الإقرار:
فى جميع الأحوال، لن تكون نتيجة أي تقويم موضوعي لإعمال آلية الدفع بعدم الدستورية سلبية عند مقارنة فاعليتها ببقية آليات المراقبة التي أقرها دستور 20 يوليو:
– فرقابة المطابقة: التي ظهرت ضمن مقتضيات الدستور المصادق عليه في:20 يوليو 1991 ،و التي تقوم على افتحاص دستورية القوانين قبل إصدارها، بناء على تعهيد المجلس من الجهات الرسمية المخولة بذلك، فعلت باقتصاد شديد؛ فخارج الإحالة الإلزامية للقوانين النظامية قبل إصدارها ،والنظم الداخلية للبرلمان أيام كان من غرفتين، واليوم بعد أن أصبح من غرفة واحدة، قبل تنفيذها ، تكاد الإحالات الاختيارية أن تنعدم (القوانين العادية والاتفاقيات الدولية)، ما دفع العميد (أحمد سالم ولد ببوط ) للتنبيه إلى أن:” المجلس مهدد بالشلل، ذلك أن النصوص الإلزامية الإحالة إليه محدودة دستوريا ويندر أن يطرأ عليها تعديل إذا تمت المصادقة عليها …”
-أما الطعن بعدم الدستورية من خلال دعوى أصلية: وقد أقر نصيا ضمن تعديل (المادة 102) الذي ورد فى القانون الدستوري رقم: 2006 -014، بتاريخ :12 يوليو 2006،و أعطى بموجبه لكل شخص أن يطعن أمام المجلس الدستوري بعدم دستورية القوانين السابقة للدستور إذا لم تعدل خلال ثلاث سنوات من صدور ذلك القانون الدستوري ،عند الاقتضاء بما يحقق مطابقتها مع الحقوق والحريات الدستورية، فقد بقي حبرا على ورق نتيجة لعدم تحديد مسطرة لتنظيم تلك الدعوى ، رغم ما كان يمكن تحقيقه بواسطتها من مواءمة للنصوص الوطنية التي صدرت في ظل نظام الحزب الواحد والحكومات العسكرية مع مقتضيات الدستور التعددي.
والحال كذلك، لن يكون مستغربا ألا تسلم آلية الدفع بعدم الدستورية من محدودية الأثر كما حصل مع تطبيق رقابة المطابقة والطعن بعدم الدستورية من خلال دعوى أصلية.
استحداث هذه الآلية جاء في شكل هبة، حيث لم تكن يوما ضمن قائمة المطالب التي تقترح من الساسة موضوعا للمراجعات الدستورية، ولم تبذل الجماعة القانونية جهدا في التعريف بها أوالتعبير عن الحاجة لإقرارها.
كون استحداث هذه الآلية حصل بمبادرة خالصة من السلطة التي هي من حددت واختارت مواضيع التعديل الدستوري وحشدت لضمان المصادقة عليه، وأن ذلك تم في ظل اصطفاف سياسي كاد يجهض مسطرة المصادقة على التعديلات المقترحة برمتها بفعل حدة الاستقطاب بين مؤيد ومناوئ لإلغاء مجلس الشيوخ واستحداث الجهوية وتغيير العلم؛ العناوين الرئيسية لتلك التعديلات، فقد مر إقرار هذه الآلية الهامة دون الزخم الذي يستحق.
عن قيمة الدفع بعدم الدستورية، يقول رئيس المجلس الدستور الفرنسي الأسبق جان لوى دوبري:” إن الدستور قبل إقرار تلك الآلية لم يكن متاحا للكافة، حيث ظل مسألة خاصة بالساسة “.
وفعليا، فإن آلية الدفع بعدم الدستورية تمنح حقا إضافيا للمتقاضين؛ يتمثل في تمكينهم من الاحتجاج بحقوقهم المقرة في الدستور، ما يسهم في دمقرطة العدالة الدستورية وإخراجها عن دائرة النخبة السياسية.
هي أيضا وسيلة ناجعة لتنقية المنظومة القانونية من المقتضيات غير الدستورية، وتكريس السمو للدستور على مستوى النظام القانوني الداخلي.
في الدول التي استحدثت هذه الآلية نظمت ندوات دولية ووطنية ومحاضرات للتعريف بها بين أفراد الجماعة القانونية. كما هو الحال في كل من الجزائر، التي أدخلت تلك الآلية في منظومتها الدستورية مع دستور 06 مارس 2016، والمملكة المغربية التي ضمنتها دستورها لسنة 2011.
أما فرنسا، فقد عمدت فوق ذلك إلى إنشاء مرصد ” Observatoire de la QPC 360 الخاص بهذا الدفع المستحدث سنه 2008، والنافذ بداية العام 2010.كما تم تعييين القاضية “باتريسيا بمونتي” من طرف رئيس المجلس الدستوري “لوران افابيوس” سفيرة لمسألة الأولوية الدستورية مكلفة بالتواصل مع الفاعلين المعنيين بإعمال هذه التقنية (قضاة، محامون …) للتبادل معهم حول تجاربهم
بشأنها وما يواجهونه بخصوصها من صعوبات.
لا وجود لمثل تلك الجهود بالنسبة لموريتانيا، رغم الحاجة المضاعفة لأكثر منها؛ حيث تنضاف للحاجة للتعريف بالآلية والظروف المثالية لإعمالها، ضرورة ملحة لسد الفراغ التشريعي الحاصل في النصوص الناظمة لها، وضبط التباين في الدلالات الحاصل في النصوص القائمة بين محتوى نسختها العربية والفرنسية (1)، وضمان نجاعتها من خلال التزام السلطات القضائية بنتائجها (2).
1- هل فعلا تم تنظيم الدفع بعدم الدستورية؟
والجواب، ليس بعد؛ فكل ما خصص لها في الدستور والقانون النظامي للمجلس الدستوري مجتمعين، خمس فقرات:
– من الدستور: الفقرة الأخيرة من (المادة 86/جديدة)،” يخول المجلس الدستوري اختصاص التعهد في شأن دعوى بعدم الدستورية أثيرت أثناء محاكمة، وذلك متى دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي يتوقف عليه مأل النزاع يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور.”
– من الأمر القانوني رقم:92-04، الصدر بتاريخ: 18 فبراير 1992، المتضمن القانون النظامي المتعلق بالمجلس الدستوري، المعدل، الفقرات :3 -4 -5 و6 في (المادة 18/جديدة)
داخل هذه الفقرات نجد أن (الفقرة 3) لم تضف على ما ورد في الدستور جديدا:” يمكن لكل عارض أن يثير الاعتراض بعدم دستورية أي قانون أمام أية محكمة”.
الفقرات المتبقية عنيت بالآجال حصرا:” تنعقد المحكمة التي رفع أمامها الاعتراض للبت وتمهل العارض أجل خمسة عشر يوما لإشعار المجلس الدستوري. ويتم ذلك بواسطة عريضة موجهة إلى كتابة المجلس.
يبت المجلس الدستوري في أجل خمسة عشر يوما اعتبار من تاريخ تسلم العريضة.
بعد هذا الأجل يعيد قاضي الأصل النظر في القضية، إذا لم يقدم العارض دليلا.”
خارج هذه النقاط لا تفصيل حول المتاح لمحكمة الموضوع بشأن الدفع بعدم الدستورية قبولا أو رفضا، ولا بآلية التوصل بقرار المجلس بشأن المقتضيات موضوع الدفع؛ هل تتلقاها من صاحب الدفع أو تبلغ لها أو تستبلغها من المجلس، أم تنتظر نشر القرار بشأنها في الجريدة الرسمية، ومتى يبدأ سريان نفاذه القرار بشأنها؟ هل اعتبارا من تاريخ نشره أو من تاريخ لاحق يحدده؟ أم أنه من الممكن أن يصل الأمر تحديد الشروط والحدود التي يجوز فيها إعادة النظر في الآثار التي رتبها هذا النص.
إضافة لشح هذه المقتضيات الناظمة للدفع بعدم الدستورية في الدستور والقوانين النظامية، يأتي التفاوت في الدلالة بين النسختين العربية والفرنسية لتلك النصوص: –
آية ذلك: في النص الفرنسي ما على المحكمة التي رفع أمامها الاعتراض أن تقوم به هو:
- تعليق البت أو الفصل «sursoit à statuer «والمقصود بذلك في الدعوى الأصلية.
- تتيح للعارض «imparti au plaideur « خمسة عشر يوما لتعهيد المجلس الدستوري من خلال عريضة موجهة لسكرتارية للمجلس، ويبت المجلس في أجل خمسة عشر يوما من تاريخ تعهيده.
« La juridiction devant laquelle l’exception d’inconstitutionnalité a été soulevée sursoit à statuer et imparti au plaideur un délai de quinze jours pour saisir le conseil constitutionnel. La saisine se fait par requête adressée au secrétariat du conseil.
Le conseil constitutionnel statue dans un délai de quinze jours pour compter de sa saisine. «
وعندما ينقضي هذا الأجل دون أن يقدم العارض ما يثبت حصول ذلك التعهيد، فإن قاضي الأصل يستأنف افتحاص القضية:
« Passé ce délai, si le plaideur n’apporte pas la preuve de la saisine, le juge du fond reprend l’examen de l’affaire. «
بينما في النص العربي:” تنعقد المحكمة التي رفع أمامها الاعتراض للبت
وتمهل العارض خمسة عشر يوما لإشعار المجلس الدستوري. ويتم ذلك بواسطة عريضة موجهة إلى كتابة المجلس”. يتعلق الأمر إذا ب:
- انعقاد المحكمة
- البت
“تنعقد المحكمة التي رفع أمامها الاعتراض للبت”، وانعقاد المحكمة هنا للبت، طبعا ليس في الدعوى الأصلية بعد إثارة عدم الدستورية أمامها، بل للبت في الدفع الفرعي بعدم الدستورية.
لقد بني على هذا الخطأ في النص العربي أن يكون للمحكمة صرف النظر عن الدفع، وهو الأمر الذي لا يستقيم مع حقيقة احتمال أن موضوع الدفع قد يتعلق بتأويل المحكمة نفسها للمقتضيات الطعينة على نحو طوح بها خارج دائرة الدستورية، فكيف يكون لها البت بشأنه!
أخطر ما في هذه الصيغة أنها تعطي عمليا لجهات التحقق من جدية الدفع بعدم الدستورية سلطة مراقبة دستورية القوانين ، علما أن تلك الجهات هي أي محكمة يثار أمامها الدفع بعدم الدستورية وفقا لصيغة “تبت المحكمة ” الواردة في النص العربي للمادة 18 من الأمر القانوني 92-04، المعدل، وفهومه، فتصبح كل محكمة في مرتبة “مراقب أولي للدستورية، على الرغم من ” أن الحسم في الطبيعة التشريعية للمقتضى القانوني المعني وتحديد قائمة الحقوق والحريات المضمونة دستوريا، يعد من الاختصاصات التي تنفرد المحكمة الدستورية بممارستها” على نحو ما قضت المحكمة الدستورية في المملكة المغربية على أساسه بعدم دستورية كل المقتضيات الواردة في القانون التنظيمي :86.15 التي تعطى لمحكمة النقض فلترة الدفوع بعدم الدستورية. (القرار رقم:18/70/م. د، بتاريخ :06 مارس 2018)
ولا مجال هنا للقياس على اختصاص محكمة النقض ومجلس الدولة في فرنسا بتصفية الدفوع بعدم الدستورية، لأن ذلك الاختصاص ورد فى الفقرة الثانية من (المادة 61-1) من دستور 4 أكتوبر 1958 التي أقرت فقرتها الأولى آلية الدفع بعدم الدستورية، ولولا ذلك لكان تعديا على الاختصاص العام للهيئة المكلفة دستوريا بمراقبة الدستورية.
في الدستور الموريتاني هي بكل بساطة “دعوى بعدم الدستورية” بحسب نص (المادة 86/جديدة):”…يخول المجلس الدستوري في شأن دعوى بعدم الدستورية…”
وهي ” الاعتراض بعدم الدستورية ” في (المادة 18/جديدة) من القانون النظامي رقم :2018-013، بتاريخ:15 فبراير 2018، المحدد لإجراءات تشكيل المجلس الدستوري،” يمكن لأي عارض أن يثير الاعتراض بعدم دستورية أي قانون أمام أي محكمة…”، وفى الصفحة العربية على الموقع الالكتروني للمجلس الدستوري فهي:” الدفع بعدم الدستورية”.
أما على واجهة الموقع بالفرنسية فيطلق عليها ” question prioritaire de constitutionnalité”، مع أن النسخة الفرنسية للدستور تسميها: ” exception d’inconstitutionnalité “.
داخل قرارات المجلس (القرار رقم :007/2023/م. د، بتاريخ:06 مارس 2023) أطلق عليها:( المسألة الفرعية للدستورية-question préjudicielle de constitutionnalité)، وهي تسمية تضمن الوصول لاختصار (Q P C) المستخدم في القانون الفرنسي، لكنها وذلك الأهم تنسجم مع النص الفرنسي ل (المادة 86 /جديدة ) من الدستور ؛حيث إن عدها (مسألة فرعية – préjudicielle Question) يناسب ما ورد فيها من عدم إعطاء دور للمحكمة التي تثار أمامها دعوى الدفع بعدم الدستورية بناء على أن الدفوع الفرعية من اختصاص جهات أخرى يؤول لها وحدها مسألة نظرها والفصل فيها.
النص باللغة العربية يجعلها ضمن الدفوع الأولية بحديثه عن “تبت المحكمة”، رغم عدم انطباق قاعدة:” قاضي الدعوى هو قاضي الدفع”، لأنه لا أهلية لتلك المحكمة في التصدي لموضوع دعوى الدفع بعدم الدستورية.
في المغرب وحدة التسمية في:
– الفصل 133 من الدستور الذي استحدثت فيه هذه الآلية يسميها (الدفع بعدم الدستورية)، حيث نص على: “تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون …”
– قانونها النظامي حيث عنوانه:” القانون التنظيمي رقم: 85.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون “. وداخل مواد هذا القانون (المادة 3):” يمكن ان يثار الدفع بعدم دستورية قانون أمام مختلف محاكم المملكة…”
– قرارات المحكمة الدستورية التزمت ما ورد فى النصين المرجعيين (الدستور والقانون التنظيمي) :(القرار رقم:70.18، بتاريخ 06 مارس 2018)
في فرنسا: استخدم النص الدستوري ” المسألة” للتعبير عنها في مادته 61-1:”إذا ثبت أثناء النظر في دعوى أمام جهة قضائية أن نصاً تشريعياً يخرق الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور جاز إشعار المجلس الدستوري – بناء على إحالة من مجلس الدولة أو من محكمة النقض- بهذه المسألة ضمن أجل محدد.”
أما صيغة (مسألة دستورية ذات أولوية – question prioritaire de constitutionnalité) المستعملة من القضاء والفقه، فوجدت من خلال الأمر القانوني رقم: 58-1067، بتاريخ :07 نوفمبر 1958، المتضمن القانون النظامي للمجلس الدستوري، المعدل، حيث عنون قسمه 2 مكررعنها ب:
” de la question prioritaire de constitutionnalité”
2-حول نجاعة الآلية وتأثير في القرارات القضائية:
نتناول هنا على سبيل القرارات أرقام:007/2023-008/2024 و009/2024: –
القرار رقم :007/2023: حالة استمرار آثار مقتضيات مخالفة للدستور
يمكن الوقوف على قيمة قرارات المجلس الدستوري في الدفوع بعدم الدستورية من خلال نموذج تعاطى المحكمة المختصة في الجرائم المتعلقة بالفساد (أحدر تشكيلة جنائية درجة باعتبار إنشائها بقانون خاص وبحكم تشكيلتها الخالية من محلفين) مع القرار رقم :007/2023، بتاريخ:06 مارس 2023:
فقد ورد في حكمها رقم:01/2023، بتاريخ 04/12/2023، الصفحة / 13:” في نفس اليوم :13/02/2023 قررت المحكمة إيقاف المرافعات في الملف، ومنح العارض أجل خمسة عشر يوما، لإشعار المجلس الدستوري، وتقديم ما يفيد ذلك خلال هذا الأجل.
وبعد انتهاء أجل الطعن بالاعتراض استأنفت المحكمة جلساتها في يوم الإثنين 20/03/2023. حيث نودي على المتهم …”
من البداية، المحكمة لا تولى كبير اهتمام لنتيجة ما سمته “الطعن بالاعتراض”؛ فهى استأنفت جلستها “بعد انتهاء ” أجل ذلك الطعن، أما قرار المجلس الدستوري :007/2023، الذي نشر في عدد الجريدة الرسمية رقم:1529، بتاريخ:15 مارس 2023، أي قبل استئناف الجلسات بخمسة أيام، فكأن المحكمة لا شأن لها به، مع أن المفترض أن تكون علاقتها به ولائية؛ لا تحتاج الإثارة من الأطراف لتعلق سلامة عملها بمراعاة ما أقر المجلس الدستوري بشأن المقتضيات التي يعتمد عليها حسم النزاع الذي تتصدى للفصل فيه.
الطرف الذي دفع بعدم دستورية (المادة 47):” أثار بطلان الإجراءات السابقة في الملف لبنيانها على (المادة 47) من قانون مكافحة الفساد التي قضى المجلس الدستوري بمخالفتها للدستور، وطلب من المحكمة التصريح ببطلان كل الإجراءات السابقة المعدة في ظل المادة السابقة…”
المجلس الدستوري قضى فعلا في قراره رقم :007/2023/م. د، بتاريخ:06 مارس 2023، بخصوص الدفع بعدم دستورية (المادة 47 /ق.م. ف) بما نصه:
“حيث إن المادة 90 من الدستور تنص على ضرورة حماية القاضي من كل أشكال الضغط التي تمس نزاهة حكمه، وبما أن استفادة هيئات التحقيق والحكم من الأموال المستردة من شأنه أن يمس من حماية القاضي في نطاق مهمته، فإن تخصيص جزء من الأموال لهيئات التحقيق والحكم يخالف مقتضيات المادة 90 من الدستور.”
ما تضمنه أمر الإحالة رقم :076/2022، بتاريخ 01 يونيو 2022، عن قطب التحقيق الخاص بمكافحة الفساد، ليس سوى العمل المنجز من هيئة تحقيق هي “قطب التحقيق الخاص بمكافحة الفساد”، في ظل نفاذ المقتضيات غير الدستورية في (المادة 47 /ق.م. ف)، التي نصها:” يخصص جزء من الأموال المستردة والمصادرة بموجب هذا القانون لا يتجاوز عشرة فى المائة 10% لصالح الهيئات المكلفة ب… والتحقيق والحكم في الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون.”
مجرد الادعاء من المتابعين بتعرضهم للضغط يضعضع الثقة بعمل المحققين، ويبطله حال تأكده، أما الضغط على المحققين الذي رأى المجلس الدستوري “أن تخصيص جزء من الأموال لهيئات التحقيق” يمثله فلا يبطل التحقيق!
في ما ليس لها، المحكمة ودون تقديم أي تأسيسات تصدر وتنفذ قرارها بسلامة إجراءات التحقيق التي تمت في ظل نفاذ مقتضيات أقر المجلس الدستوري عدم دستوريتها، دون اعتبار لتمتع قرارات المجلس بسلطة الشيء المقضي به وعدم قابليتها للطعن وإلزاميتها للسلطات العمومية وجميع السلطات الإدارية والقضائية. (المادة 87/دستور)
بحسب (المادة 62) من الدستور الفرنسي يتحدد تاريخ سريان نفاذ قرار المجلس الدستوري الإيجابي بشأن المقتضيات التي دفع أمامه بعدم دستوريتها إما:
-اعتبارا من تاريخ نشر قرار المجلس
– أو من تاريخ لاحق يحدده هذا القرار
-قد يصل الأمر تحديد الشروط والحدود التي يجوز فيها إعادة النظر في الآثار التي رتبها هذا النص.
في موريتانيا لا وجود لمثل هذا التحديد، لكن نص الدستور على شرطي: حيازة الصفة “أحد الأطراف” وتحقق المصلحة المباشرة والصريحة من خلال منع” المساس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور” له. وما أضيف لهما من تعلق الأمر بموضوع معين في نزاع بعينه “مآل النزاع “، لا يترك مجالا للنقاش بخصوص استفادة المتقدم بالدفع بعدم الدستورية من القرار المتعلق بدفعه، بغض النظر عن التاريخ الذي يحدده المجلس لسريان ذلك القرار.
في المادة 102/ جديدة) النص على أنه:” لا يمكن تطبيق المقتضيات المحكوم بعدم دستوريتها ” في دعوى أصلية بعدم الدستورية مثارة خارج مسطرة نزاع ومن غير ذي مصلحة، فكيف يتأتى تطبيق المقتضيات المحكوم بعدم دستوريتها ” في دفع فرعي بعدم الدستورية مقدم من ذي صفة ومصلحة”!
في جميع الأحوال، فإنه في ظل غياب نص بتحديد تاريخ لسريان نفاذ قرارات المجلس الدستوري بخصوص رقابته البعدية عن طريق الدعوى الفرعية بالدفع بعدم الدستورية، وعندما لا تتضمن هذه القرارات أي تحديد لذلك التاريخ، لا يكون أمام المعنيين بتلك القرارات سوى الوقوف عند الثابت فى حجية قرارات المجلس الدستوري كما حددته (المادة 87) من دستور 20 يوليو، المثبت والمعدل:” لا يصدر أو ينفذ حكم أقر المجلس الدستوري عدم دستوريته.
تتمتع قرارات المجلس الدستوري بسلطة الشيء المقضي به.
لا يقبل أي طعن في قرارات المجلس الدستوري، وهي ملزمة للسلطات العمومية وجميع السلطات الإدارية والقضائية.”
القرار :008/2024: -رقابة خارج التصنيف
ما مارسه المجلس في قراره رقم :008/ 2024/م. د، بتاريخ :13 نوفمبر 2024، حول دستورية القانون رقم: 2021/021، الصادر بتاريخ:02 دجمبر 2021، المتعلق بحماية الرموز الوطنية وتجريم المساس بهيبة الدولة وشرف المواطن، من بت في مطابقة القانون بأكمله للدستور خلق صورة رقابة هجينة تخرج عن كل تصنيف:
-فبتصديه لافتحاص دستورية قانون بكل مواده يظهر المجلس وكأنه يمارس “رقابة المطابقة ” التي يقوم فيها بالنظر في مطابقة نص كامل مع الدستور، لكن لا مجال له للقيام بذلك؛ لأن تعهيده في تلك الرقابة لا يكون بدعوى، بل بموجب إحالة إلزامية أو اختيارية من الجهات التي أعطاها الدستور ذلك بشكل حصري، وبغية البت في مدى مطابقة نص قبل إصداره للدستور؛ حيث التعهيد يطرح سؤالا محددا: هل في هذا النص ما يخالف الدستور؟
-هو أيضا يظهر وكأنه تعامل مع “دعوى أصلية بعدم الدستورية” يدعى فيها بعدم الدستورية، على أساس ما تتيحه (المادة 102 /جديدة) استثنائيا لأي شخص أن يعهد المجلس بشأن عدم دستورية قوانين سابقة على صدور دستور 20 يوليو 1991، يرى الطاعن أنها تحتوي مقتضياتغير منسجمة مع الحقوق والحريات الدستورية. لكن الأمر ليس كذلك، لكونها دعوى لا تعرف لها مسطرة، ولا تكون فرعية من قضية أصلية.
-وهو أيضا ليس المناسب في وجود” دعوى فرعية بعدم الدستورية” تبنى وجوبا على “وصم مقتضيات بعينها بعدم الدستورية “، حيث يلزم فيها أن يكون الطعن فوق ارتباطه بنزاع أمام محكمة، منصبا على مقتضيات بعينها؛ تمييزا له عن الدعوى الأصلية بعدم الدستورية، ولصريح النص في الوثيقة الأسمى على ذلك:
-باشتراط كون إثارته أثناء محاكمة تنظر نزاعا محددا بخصوص المواد التي تطبق فيه:( في حالة متهم، حيث يتعلق الأمر بالمقتضيات التي تمس الاتهام موضوعيا وإجرائيا).
-تعلق الدفع بما يتوقف عليه مآل النزاع؛ أي مصلحة للطاعن: فتفعيل حق الدفع يقترن وجوبا بالدفاع عن مصلحة ذاتية لأطراف النزاع، حيث لا وجود للدعوى الدستورية الناجمة عن إثارة الدفع بمعزل عن الدعوى القضائية المرتبطة بالدفاع عن حقوق المتقاضين. فما هي مصلحة الطاعن في البت بشأن دستورية بقية مواد القانون المذكور التي لا يتابع على أساسها:
ما تأثير القول بدستورية أو عدم دستورية المواد: (المادة 3): المتعلقة بالمساس بالحياة الخاصة، و(المادة 4): التي تعنى بتجريم ومعاقبة المساس بالسلم الأهلي وباللحمة الاجتماعية.
ونفس الشيء بالنسبة ل (المادة 5): التي عن النيل من الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة؟ هل يطعن مثلا في (المادة الأولى) التي عن الهدف من القانون، أو ما تضمنته (المادة 6) عن العود، أم فى ممارسة النيابة للدعوى العمومية في متابعة الأفعال المنصوص عليها في هذا القانون. (المادة 7)؟
عدم ملاحظة المجلس أن موضوع الطعن يتضمن مقتضيات لا علاقة لها بمآل النزاع، أو عدم عده تعلق الطعن بما يؤثر البت فيه على مصير النزاع شرطا في قبول الدعوى أصلا وعدم قبول الدعوى على ذلك الأساس، حول رقابته في هذه الحالة من الدفع بعدم الدستورية إلى رقابة هجينة تأخذ من كل صورة من صور الرقابة على دستورية القوانين دون أن تكتمل فيها شروط أي منها.
إن تصدي المجلس للطعن بهذا القانون كان ممكنا في حالة واحدة؛ أن يكون المتهم قد اتهم بمخالفة هذا القانون دون تحديد لمقتضيات منه بعينها!
أخطر ما في مذهب المجلس هذا لو تم التسليم به-أنه يرتب عمليا إعطاء جهات التحقق من جدية الدفع بعدم الدستورية سلطة مراقبة دستورية القوانين ، علما أن تلك الجهات هي أي محكمة يثار أمامها الدفع بعدم الدستورية وفقا لصيغة “تبت المحكمة “الواردة في النص العربي للمادة 18 من الأمر القانوني 92-04، المعدل، وفهومه، فتصبح كل محكمة في مرتبة “مراقب أولي للدستورية؛ رغم أن الحسم في الطبيعة التشريعية للمقتضى القانوني المعني وتحديد قائمة الحقوق والحريات المضمونة دستوريا، يعد من الاختصاصات التي تنفرد المحكمة الدستورية بممارستها” كما تبنت المحكمة الدستورية في المملكة المغربية في تأسيسها للقول بعدم دستورية كل المقتضيات الواردة في القانون التنظيمي 70.16 التي تعطى لمحكمة النقض فلترة الدفوع بعدم الدستورية.
اختصاص محكمة النقض ومجلس الدولة في فرنسا بتصفية الدفوع أساسه دستوري؛ حيث ورد فى الفقرة التالية من المادة 61-1 التي أقرت فقرتها الأولى آلية الدفع بعدم الدستورية، ولولا ذلك لكان تعديا على اختصاص الهيئة المكلفة دستوريا بمراقبة الدستورية.
القرار رقم:09/2024: الحاجة للتفسير
في 27 نوفمبر 2024 تم إيداع عريضة الطعن بعدم دستورية (المادة 2/ق. م. ف)، لكن الأجل المتاح لبت المجلس الدستوري في تلك الدعوى (15 يوما) لم يبدأ فعليا إلا يوم: الإثنين 02 دجمبر.
ثلاثة أيام من ذلك التاريخ كانت كافية ليذاع القرار :09/2024، الذي لما ينشر بعد، وعلى الراجح لن يكون له ذلك قبل منتصف الشهر؛ تاريخ إصدار العدد نصف الشهري للجريدة الرسمية، أي بعد قرابة انقضاء أسبوع على استئناف محكمة الأصل الذي تفرع عنه الدفع بعدم الدستورية جلساتها!
القرار:09/2024، تأسس على ثلاث حيثيات، جاءت فى ثمانية أسطر، وخلت من أي استشهاد بالنص المعياري أو بقية الكتلة الدستورية، إذ اعتمدت الملاءمة بديلا للقانون، وهو ما لا يتسق مع ما ذهب إليه المجلس الدستوري نفسه في قراره رقم: 002 / ق.م17 و22 يونيو 1992 ، وما استقر عليه عمل نظيره الفرنسي من أن المجلس يحكم “بالقانون وليس طبقا للملاءمة”
الحيثية الأولى، حملت مصادرة على المطلوب من المجلس، وذلك عندما انطلقت ومن دون تأويل أو تأسيس وبشكل بات من أن:” الموظف العمومي في مفهوم قانون مكافحة الفساد يشمل جميع من يقدمون خدمة عامة للدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية…” مع أن هذا هو مدار النقاش.
في الواقع، فإن الذي يخالف الدستور ليس نص (المادة 2) من القانون رقم: 2016-014، بتاريخ: 15 إبريل 2016 المتعلق بمكافحة الفساد، بل التأويل الذي أعطي لها خلال المسطرة التي توجت بحكم المحكمة المختصة بالجرائم المتعلقة بالفساد وتنظر استئنافه الغرفة الجزائية الجنائية بمحكمة الاستئناف بانواكشوط الغربي.
إن قيمة ألية الدفع بعدم الدستورية تكمن في ما تتيحه من رقابة على القوانين أثناء تطبيقها، وذلك من أجل الحيلولة دون استقرار فقه قضائي مخالف للدستور. من هذه الزاوية حتى القوانين التي كانت خضعت لرقابة مطابقة لا تحصن مطلقا أمام الدفع بعدم الدستورية متى تغيرت الظروف أو الوقائع، فالمجلس الدستوري بحكم اختصاصه في تفسير الدستور بمناسبة إحالة تعرض عليه، وفى حدود ما تقتضيه مراقبة دستورية القوانين، هو الجهة المعنية بتبيان كيفيات تطبيق القواعد والإجراءات الواردة في الدستور بما يتلاءم مع سموه ووحدة البناء القانوني للدولة.
التعويل على تعريف هذه المادة للموظف العمومي لإدخال رئيس للجهورية دائرة المساءلة عن الأفعال المجرمة بمقتضى قانون مكافحة الفساد، يعنى عمليا الاعتراف بخروجه عن تلك الدائرة قبل صدور هذا القانون، أو لولا التأويل الذي يشمله، رغم تضمن قانون العقوبات وغيره من القوانين ومدونات السلوك للكثير من العقوبات الجزائية والجنائية والتأديبية المسلطة على الموظفين العموميين، لارتكابهم أفعالا مشمولة بصفة الفساد وفق ما سيأتي به قانون مكافحته، وفى ذلك ما فيه.
في قرار المجلس الدستوري رقم :09/2024، بتاريخ :05 دجمبر 2024:” الموظف العمومي في مفهوم قانون مكافحة الفساد يشمل جميع من يقدمون خدمة عامة للدولة بمن فيهم رئيس الجمهورية، ولا يقتصر على مفهوم موظف الدولة الوارد ذكره في القانون 09-93 الصادر بتاريخ 18 يناير 1993.”، معتمدا في هذا التأويل على تأسيسين تنقصهما الوجاهة:
-فالقول بالخيار الحدي بين إبقاء التأويل بأن التعريف المقدم للموظف العمومي يشمل رئيس الجمهورية وإلا “حذف الفقرة وإعلانها مخالفة للدستور”، ما سيؤدى إلى:” إفراغ باقي نصوص هذا القانون من أي محتوى أو معنى لأنها تعني فيما تعنيه عدم تطبيق هذا القانون على كل من هم في هرم السلطات مما يشكل خرقا سافرا للقانون”.
إن هذا الخيار غير وارد؛ لأن الأمر يتعلق بالتماس تأويل هذه الفقرة في ضوء المقتضيات الدستورية والنظم القانونية الوطنية والمعاهدات الدولية المصادق عليها بالخصوص، ولا يقتضي مسها بتعديل، أحرى أن يرتب حذفها، ذلك أن مدار النقاش محصور حول مساءلة الرئيس، الأمر غير المطروح بالنسبة لبقية من هم في هرم السلطة.
– الربط بين المصلحة العامة وتعميم المساءلة:” المصلحة العامة للبلاد التي حتمت إصدار قانون مكافحة الفساد تقتضي مساءلة الجميع عن الجرائم المتعلقة به”، وهو ربط غير لازم بالضرورة ؛بدليل ما حوت (المادة 93 /جديدة ) من تمييز بين رئيس الجمهورية ،من جهة ، ووزيره الأول وأعضاء حكومته ؛ فالرئيس:” لا يكون رئيس الجمهورية مسئولا عن أفعاله أثناء ممارسة سلطاته إلا فى حالة الخيانة العظمى ” وفى فقرة لا حقة نجدها تنص على أن :”الوزير الأول وأعضاء الحكومة مسئولون جنائيا عن تصرفاتهم خلال تأدية وظائفهم والتي تكيف أنها جرائم أو جنح وقت ارتكابها…”.
غير لازم كذلك بمنطق قرار المجلس رقم :008/2024، الذي ميز رئيس الجمهورية عن باقي المسئولين العموميين مؤسسا لذلك التمييز على عاملين حاسمين:
-طبيعة المسئوليات هو حامي الدستور وهو الذي يجسد الدولة)
-وجود آلية مساءلة خاصة، وجزاءات رادعة تضمنتها وبينتها (المادة 93 /جديدة) من الدستور. ورئيس المجلس الدستوري سيد العارفين بتلك الحقيقة، وهو الذي كان عراب مشروع التعديل الدستوري الذي حمل إلغاء محكمة العدل السامية، وأخذت عليه المعارضة منحاه لإلغاء مساءلة رئيس الجمهورية بإلغاء الجهة المعهودة لمساءلته. وما أعقب ذلك من الإبقاء على هذه المؤسسة في مشروع القانون الاستفتائي تطمينا لتلك الهواجس.
إن تأويل (المادة 2) من قانون مكافحة الفساد بما يدخل رئيس الجمهورية أو يخرجه دائرتها يستدعى مراعاة الآتي:
-أن نص القانون 2016-014، يكرر حرفيا أحكام اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2004، التي صادقت عليها موريتانيا في: 25 أكتوبر 2006، وبتلك المصادقة تقع الاتفاقية ملزمة لموريتانيا وتحوز سلطة فوق سلطة القانون (المادة 80) من الدستور. لكن الاتفاقية نفسها تعطى للقوانين والمبادئ الدستورية للدولة الطرف السلطة التقديرية في ما يتخذ من تدابير تشريعية وتجريمية للأفعال الجرمية الواردة بالاتفاقية؛ فنجد مثلا :(المادة 20/فقرة 1) عن الإثراء غير المشروع، تنص على:” تنظر كل دولة طرف، رهنا لدستورها والمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، في اعتماد ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم …”.
نفس الأمر بالنسبة ل :(المادة 23/فقرة 1) غسل العائدات الجرمية:” تعتمد كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي ما قد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم …”.
ومثلهما (المادة 27): عن المشاركة والشروع، التي اعتمدت في فقراتها الثلاث نفس المعيار:” وفقا لقانونها الداخلي”.
-أن الاتفاقية بالنسبة لتنظيم الملاحقة والمقاضاة الجزاءات تبنت تغليب النظام القانوني والمبادئ الدستورية للدولة الطرف حيث جاء في (المادة 30/فقرة 2) أنه:
“تتخذ كل دولة طرف، وفقا لنظامها القانوني ومبادئها الدستورية، ما قد يلزم من تدابير لإرساء أو إبقاء توازن مناسب بين أي حصانات أو امتيازات قضائية ممنوحة لموظفيها العموميين من أجل أداء وظائفهم وإمكانية القيام، عند الضرورة، بعمليات تحقيق وملاحقة ومقاضاة فعالة فى الأفعال المجرمة في هذه الاتفاقية…”.
يترتب على هذا النص في الحد الأقصى وعندما تريد الدولة الطرف تقليص حصانات مقرة بالدستور إجراء تعديل على المقتضيات الناظمة للحصانات والامتيازات القضائية المقررة لمصلحة وظائف معينة حتى تتأتى مقاضاة من تسند لهم عن أفعال تجرمها الاتفاقية.
لمثل هذا الغرض أدخلت فرنسا التعديل الذي جاء في المادة 53-2:”يمكن للجمهورية أن تعترف بهيئة المحكمة الجنائية الدولية وفق الشروط المنصوص عليها في المعاهدة الموقعة في 18 يوليو1998″، بغية تحقيق توازن مناسب بين الحصانة الممنوحة له بموجب (المادة 67):” لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن الأفعال التي يؤديها بهذه الصفة…”، ومن جهة ثانية، ضرورة قيام المحكمة الجنائية الدولية بعمليات تحقيق وملاحقة ومقاضاة فعالة بحق الرئيس الذي يرتكب الأفعال المجرمة في ميثاق روما.
وضعية وحدود قابلية مساءلة رئيس الجمهورية بحسب قرار المجلس الدستوري: 09/2024، تأثرت بالقول بأنه مشمول بالتعريف المقدم من (المادة 2) من قانون مكافحة الفساد للموظف العمومي، لكن تحقق حصول ذلك التغيير يفترض أن لا يبنى على تأويل؛ بل على إقرار صريح من خلال تعديل يطال الحصانات والامتيازات القضائية القائمة.
مثل ذلك التعديل لم يحصل ،ولا تدعيه موريتانيا .و عدم حصوله لم يسبب ملاحظة سلبية عليها في عرضها أمام فريق استعراض الاتفاقية، ففي وثيقة مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ورذ عن: فريق استعراض التنفيذ، الدورة الثامنة المستأنفة فيينا، 7 و8 نوفمبر 2017، البند 2 من جدول الأعمال، استعراض تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، خلاصة وافية، مذكِّرة من الأمانة، الصفحة 4) عن واقع الحصانات والامتيازات القضائية في النظام القانوني والمبادئ الدستورية في موريتانيا، بصيغة الإخبار ودون عدها عراقيل أمام تنفيذ الاتفاقية:
“ويتحمل رئيس الجمهورية مســــــؤولية الأفعال التي يقوم بها أثناء أدائه لواجباته في حالة الخيانة العظمى (المادة 93 من الد ستور). ويتحمل رئيس الوزراء وأعضاء الحكومة المسؤولية الجنائية عن الأفعال التي يقومون بها أثناء أدائهم لواجباتهم والتي تُصنَّف كجرائم أو جنح وقت ارتكابها. وتنص المادة 18 من الأمر رقم 012-2007 بشأن التنظيم القضائي على أنه لا يجوز متابعة رئيس المحكمة العليا للقضاء جنائيًّا إلاَّ في حالة التلبس، وبموافقة مسبقة من المجلس الأعلى للقضاء. ويَتطَلَّب القانون رقم 20- 93 المتعلق بالنظام الأساسي لمحكمة الحسابات الرأي المسبق للمجلس الأعلى للقضاء لملاحقة أعضاء محكمة الحسابات.”
وهذه الوضعية لا تنفرد بها موريتانيا، ففى قائمة الدول التي صادقت على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد من لا تسمج دساتيرها بالتعرض لذات الحاكم، ومع ذلك يتلقى تطبيقها للاتفاقية إشادة كبيرة من الأجهزة الرقابية للاتفاقية الدولية.
مذهب المجلس الدستوري الموريتاني بشأن ما ورد في المادة الأولى من القرار من دستورية:” الفقرة ب/1 من المادة 2 من القانون رقم 2016/014 بتاريخ 15 إبريل 2016، وما ورد في مادته الثانية من أنها:” لا تتعارض مع الحقوق والحريات التي تمنحها المادة 93 من الدستور.”؛ يجد تفسيره إما:
*- باعتبار أنها:
-لا تخالف الدستور.”، من زاوية أن الدستور لا يضع قيدا على قوانين التجريم في استخدام عبارات جامعة لا استثناءات فيها، فالدارج فيه استخدام صيغ من قبيل:” كل من “، وبالتالي رأى المجلس أن عدم استثناء هذه المادة لرئيس الجمهورية لا يخرج عن المألوف ولا مخالفة فيه للدستور، معتبرا أن القول بخلاف ذلك يعنى ،بالضرورة المنطقية، اعتبار كل تجريم لا يقوم على التنصيص على إخراج رئيس الجمهورية من دائرته يقع مخالفا للدستور ؛ فتطال اللادستورية كامل منظومة التجريم التى بنيت أصلا على الوقوف عند الصفة العامة في القيام بالفعل “كل من “، مع ما يحمله ذلك من خطر على الأمن القانوني و المنظومة القانونية بشكل عام.
-هي كذلك لا تمس حصانة رئيس الجمهورية كما حددتها (المادة 93/جديدة من الدستور)، وذلك باعتبار أن دور قانون العقوبات هو التجريم. أما الحصانات من المساءلة والامتيازات القضائية فيها، فقمنتها الأصلية قوانين أخرى؛ كما الحال بالنسبة لحصانة رئيس الجمهورية – سماها القرار حقوقا وحريات-، التي أكد القرار في المادة الثانية منه أن سريانها لا يتأثر بما ورد في الفقرة الأولى من تعميم في صيغة التجريم:”
*- أو باعتبارها: كتطبيق لتقنية “المطابقة المشروطة ” التي دأب المجلس الدستوري على استخدامها منذ قراره 001:/ق. م، المتعلق بنظام الجمعية الوطنية؛ حيث تقوم تلك التقنية على تعليق تقرير دستورية مقتضيات قانون يستعرضه المجلس على تحقق شرط خارج نص القانون؛ ما يعنى عدم دستوريتها حال عدم تحقق ذلك الشرط:
– الفقرة ب/1 من المادة 2) من القانون: 2016-014، الصادر بتاريخ:15 إبريل، لا تخالف الدستور.
– على شرط أن لا يصل تأثيرها حد المساس بالحقوق والحريات التي تمنحها المادة 93 من الدستور لرئيس الجمهورية.
مذهب المجلس الدستوري فى القول بمطابقة الفقرة ب/1 من المادة 2، أملاه كون حذف هذه الفقرة:” … وإعلانها مخالفة للدستور تعنى إفراغ باقي نصوص هذا القانون من أي محتوى أو معنى لأنها تعنى فيما تعنيه عدم تطبيق هذا القانون على كل من هم في هرم السلطة مما يشكل خرقا سافرا للقانون.”
لكن بالمقابل، فإن ما أثار الطاعن في عريضته من خطر يتهدد حقوق رئيس الجمهورية وحرياته الواردة في المادة 93 بجعله:” يساءل عن أفعاله أثناء ممارسة مهامه، وتتهمه النيابة العامة، ويحاكمه القضاء العادي، وبالتالي فإن هذ مخالف للمواد 24 ،27، 93 من الدستور”، غير وارد، لكون شرط مطابقة (الفقرة ب/1 من المادة 2) للدستور هو أن لا تؤثر في تلك الحقوق والحريات.
بمثل تلك التقنية يؤمن المجلس تمرير نصوص مهمة للكافة من خلال تدخل منه يرافقها فيه حتى رسم حدود تطبيقها بما يحقق مسئوليته الأولى التي ليست سوى ضمان هيمنة القواعد الدستورية على ما سواها.
الأستاذ يعقوب السيف .