الفساد والتبييض واستغلال العمالة الوافدة/الولي سيدي هيبه

تانيد ميديا : تتسارع وتيرة العمران في أحياء تفرغ زينة، حيث تمتد المشاريع السكنية بشكل مذهل على مد البصر نحو نواذيبو، تلتهم الرمال وتقترب من الشاطئ في سباق محموم مع الزمن. الورش تنشط طوال اليوم، والعمل مستمر في الليل والنهار، حيث يعمل العمال الأجانب بأعداد كبيرة تحت أضواء المصابيح وشاشات الهواتف، يبذلون جهودًا مضاعفة في بناء الفلل الفاخرة والعمارات الراقية متعددة الطوابق، لكنهم يتقاضون رواتب زهيدة في ظل غياب شبه تام لحقوقهم وضمانات سلامتهم.

ما يثير التساؤل هو أن هذه المشاريع العمرانية الضخمة، والتي لا تتضمن – الأسف – مصانع أو مراكز مهنية فنية تأهيلية لأفق صناعة محلية أو ورش لدعم قيام البنى التحتية ذات مردودية على الحركية التنموية. وتُنفق المليارات على هذا “العمران السكني” الباذخ، الذي تعود ملكيته في الغالب الأعم لبعض شيوخ أحنت السنون ظهورهم وإلى شبان وشابات لا يظهر عليهم أنهم يملكون الخبرة أو الأعمار التي تؤهلهم لامتلاك هذه الثروات عبر مسارات الكدح التقليدي.

وتتدفق هذه الأموال بسخاء لتمويل تلك المشاريع، وتذلل أمامها جميع عقبات التشييد حيث تستجلب لها المعدات والمواد من أرقى البلدان الصناعية. كما يوحي هذا المشهد بأن المال ليس عائقًا، بل إنه يتدفق كأنما بلا مصدر واضح. ففي ظل هذا التوسع العمراني غير المسبوق، يظل السؤال المطروح:

من أين تأتي هذه الأموال التي تحقق هذا الانفجار العقاري الكبير والطفرة الزائدة في المركبات الغالية السعر والباهظة الصيانة في بلد يفتقر إلى بنى طرقية تليق بفخامتها، في كل أرجاء حي “تفرغ زينه”؟

الإجابات المحتملة تقتصر على احتمالين:

  • أنها من المال العام الذي يتم الحصول عليها عبر شبكات الفساد المحمية من المنظومة القبلية النشطة،
  • أنها تأتي عن طريق تجارة المخدرات أو عمليات تبييض الأموال التي تُنفذ بطرق عدة ولها هي الأخرى قوالب حماية “توافقية” خاصة بها.

وبينما تتواصل عمليات البناء بوتيرة متسارعة باستخدام اليد العاملة المهاجرة الرخيصة التي يتم فيما بعد شيطنتها من أجل مآرب سياسية “رخيصة”، يبقى الواقع محاطًا بالغموض، حيث تتداخل “الطموحات المشروعة” مع “الثروات المشبوهة”، وتتلاشى الحدود بين “النجاح الحقيقي” و”الثراء السريع” الذي لا يُفسَّر إلا عبر أدوات الظل.

وإن أخطر ما يهدد الاستقرار ويعيق التطور هو ما يكون من غياب “مفهوم الدولة” على مختلف الأصعدة، أفقياً وعمودياً. وبديهي القول إن هذا المفهوم يشمل الأسس الراسخة التي تقوم عليها الدولة الحديثة، مثل مؤسسات وأدوات الحكم، منظومة القوانين، العدالة الاجتماعية، والشفافية في الإدارة.

ولا تكمن المشكلة فقط في غياب المفهوم النظري لهذا البناء المؤسسي، بل وفي غياب التطبيق الفعلي له على الأرض وتجسيده في المسلكيات المدنية والجمهورية. فالطبقة المتعلمة التي حصلت على تعليم عال، وقد تخرج معظم أفرادها في أغلب جامعات العالم المرموقة، لم تستطع إن لم تكن تعمدت الامتناع، استجابة للدولة العميقة، عن القيام بالدور المطلوب في تعزيز هذا المفهوم المحوري في قيام الدولة السوية.

وعلى الرغم من أن هذه الطبقة اكتسبت طيلة فترة الدراسة علوما جمة ومهارات واسعة واختصاصات متنوعة، واحتكت بالشعوب المتقدمة وتعرفت عن كثب على تجارب الدول التي أسست نظمها على قواعد سليمة، فإن أن معظم المعارف التي حصلتها ظلت جامدة لم تُترجم إلى حلول عملية تتناسب مع متطلبات الواقع المحلي المختل. وبدلاً من استخدام هذه العلوم والخبرات والمهارات لتطوير آليات بناء الدولة وترسيخ مفهومها، فإن هذه الطبقة التي تشكل “النخبة” قد ابتعدت ومنذ الوهلة الأولى عن هموم الشعب الحقيقية وركزت على مصالحها الفردية الضيقة، وعلى محاكاة تجارب بعيدة عن ثقافتها وتاريخها، ما عمق الفجوة بينها وبين فسيفساء الجماهير الشعبية.

وأما الشعب الذي مرت على استقلال بلده أكثر من ستة عقود، كان من المفترض أن تكون فترة كافية لتحقيق تغييرات جوهرية في عقليته وأحواله، فقد ظل تعليمه قاصرا، ومسار تنميته متعثرا على الرغم من وفرة الموارد المتنوعة التي من بينها المعادن وثروة، سمكية الأكبر في العالم، وحيوانية كبيرة والنفط والغاز؛ مقدرات هائلة ومتنوعة لم تُستثمر بالشكل الأمثل في لإنجاز بنية تحتية قوية، وتحسين مستوى الخدمات العامة الضرورية، وبناء اقتصاد متنوع يخلق فرص العمل المستدامة. لا يزال الفقر، والمرض، والجهل، والجوع يشكلون واقعًا يوميًا لمعظم السكان. كما أن الطبقات الاجتماعية المهمشة، التي تعاني من تاريخ طويل من التهميش، لا تزال هي الأخرى تجد صعوبة في الحصول على حقوقها الأساسية، مما يعزز استمرار دوامة الفقر والظلم.”.

ويرجع هذا الجمود القديم الجديد إلى عدة أسباب، أبرزها تأخر قيام الدولة المركزية من رحم “اللا دولة” في العام 1960 على يد المستعمر الفرنسي وفي ظل غياب أسباب “المنعة” التي تؤسس القوة القادرة على فرض النظام وتنظيم العلاقة بين السلطة وبين المواطنين من خلال دستور منيع ومؤسسات جامعة مانعة؛ دولة توفر العدالة والمساواة، وتسعى أن تكون نموذجًا دائمًا للعدالة وتحقيق النهضة والتنمية، قادرة على تلبية احتياجات الشعب من خلال توزيع الثروات بشكل عادل. وإن غياب “مفهوم الدولة” بهذا المعنى العميق هو الذي تجاوز مجرد ضعف المؤسسات السياسية ليعكس أزمة في الهوية الوطنية، وتراجعًا في بناء أسس التنشئة السياسية التي تؤسس للولاء الوطني الثابت.

ويكمن حل هذه المعضلة في وحدها إعادة بناء مفهوم الدولة على أسس سليمة، تبدأ من تصحيح العلاقة بين النخب السياسية والشعب من ناحية، وبينها والدولة من خلال حوار يقوم على الصراحة وعلى خلفية حب الوطن والحرض على وحدة شعبه وسلامة حوزته التربية، ويسعى إلى التركيز على ضرورة إصلاح وتطوير التعليم والخدمات الصحية، والاستغلال الأمثل لمقدرات وثروات البلد. كما أنه لا بد من الاهتمام بتشييد بنى تحتية جيدة كثيرة ومتطورة قادرة على تلبية احتياجات المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية. فمن خلال هذا التوجه يمكن فقط يمكن للحوار أن يرسم معالم تحقيق نهضة حقيقية، وحصول الانتقال الفعلي من حالة الجمود إلى أفق التنمية المستدامة والشاملة.

فهل تسهم مقترحات مشاريع البرامج السياسية والاجتماعية والتنموية التي ستتضمنها أوراق المشاركين في الحوار المرتقب لإحداث هذا التغيير المنشود؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى