يبدو أنهما مضيا!!/ محمد فال ولد سيدي ميله
تانيد ميديا : مرة أخرى يضرب القَدَرُ صميمَ بستاننا الفواح. ارتجاجات انفطرت لوقعها جدران أفئدة صبيتنا وسقوف عقول كهولنا.. زلزلة في وجداننا يكاد صوتها الفظ يزيل بقايا شظايا عقولنا الطائشة. مسكينة هي الحياة لو أنها تفهم!. إنها قصة أخرى بطلها الموت، ومشهدها الوحيد أسرة ممزقة، مكلومة، مصدومة، لم تعد تذوق طعما مميزا للنوم.
بالأمس، غادرتنا الخيزرانة الثانية. كم طيّبَتْنا، كسابقتها، بلسان حُلْو وطباع لينة ناعمة!!. وبقي المنزل هامدا، باهتا، ساهما، لا أريج عائشة ولا عبير عثمان يزينان أركانه، ولا ملاحتهما تزخرف هزيعنا الحزين وإضحاءنا الباكي. ومع الوردتين العَبقتين، مضى صبرُ أيوب، ومضت عفة مريم، ومضت معهما مرونة الحرير وحلاوة عهن السكر. فأين مَنْ إذا نوديا لخير انقادا وأجابا، وإذا استُنفرا لشر أعرضا وأبَيَا؟!..
في أقل من سنة، اختار الشقيقان تلال البعلاتية حيث منازل الأحبة ومثوى الحب الدافئ.
كانا يَألَفان ويُؤْلَفان. رفضت طباعهما أن تفترق.. عارضتْ أيَّ بقاء منفرد في زمن يكفر بالخلق الحميد، ولا يعترف بغير الأجلاف ذوي الصلف.
لم يكن درويش مبالغا البتة، فـ”أسباب الوفاة كثيرة، من بينها وجع الحياة”. فلتبتلع آكامُ آمشتيل جفير جسميهما، ولتذهبْ روحهما الموحَّدة الموحِّدة إلى رحمات السماء: “اذهبي، فالموت المبجل شرف لك.. وروحك الباقية سَتُغَنّي عبر الزمن” على حد تعبير شارل لوكونت في إحدى بكائياته.
لم نعد نبرح الذاكرة: ننبش الذكريات كل ليلة، باحثين، في خلوتنا، عن همسة لهما، أو حركة منهما، أو ابتسامة هادئة، أو التفاتة عجلى عن منكر القول وشائن الفعل. وحده الحديث عنهما يعيدهما إلينا، ولو في الخيال، لنضحك، نغضب، نتشاجر بلطف، ثم يستيقظ فيهما حلمهما وتسامحهما، ليتحول الجو إلى حب سماوي، طوباوي، فردوسي، وحدهما من يستطيعان صنعه وتغليفه وإهداءه، بكرم ملائكي، إلى الإخوة، والبنات، والجار، وخادم المنزل، والطير التائه، والقطة البريئة.
هنا وهناك، نلتقي فجأة بأشيائهما الجميلة، فنسقط صرعى كأننا أعجاز نخل خاوية: جلبابُه، رقم هاتفها، غليون تبغه، تسبيحتها، عُمَيْرُه المفضال، نفيستها النفيسة. ثم ندخل برزخ الشطح الوجداني إذ نذوب، برهة، في عوالم لا نعرف لها معنى أو تفسيرا أو حدودا. “وهل سلوة بعد الفراق لهائم” سقيم، خائر، متروك لوحده بين مخالب الزمن الكنود!!. صابر وصبور حقا من كانا له أخوين شقيقين، وعاش معهما، وعايشهما، وعرفهما، وفقدهما فجأة، ولم يقدّم بعد استقالته من هموم هذه الدنيا الدنيّة!!
“كانت لهما الجنات مفتوحة: ثمارها، وعشبها الناضر”. فهنيئا للثرى بمقدمهما، وهنيئا لهما بلقاء المُؤَهَّل وحده للقِرى الأبدي الخالد. لا غَبّهما غيثُ الرحمة المدرار، ونسيمُ المغفرة النَّدِي. وإنا لله وإنا إليه راجعون.