توضيحات حول الأساس القانوني لتعميم وزارة المالية المتعلق بتنقيح ومراقبة كتلة الأجور

تانيد ميديا : أثير الكثير من اللغط بمناسبة توجه وزارة المالية لقطع مرتبات قضاة ،حيث اعتبر نادى القضاة ذلك مخالفا للقانون ، وتبين لا حقا أن وزير العدل قد كاتب وزارة المالية حول نفس الموضع و بنفس منطق نادي القضاة ، ثم ليأتي هذا المقال المؤسس ليبين من  بين أموور أخرى سلامة موقف وزارة المالية والأهم من ذلك ليوضح أن الأمر لا يتعلق بتعليق راتب أي قاض ختى يكون من مبرر لبيان النادي ورسالة الوزارة ، بل الأمر يتعلق بوضعية قضاة يتقاضون من خزينة الدولة تفقات لا وثائق تبرر حصولهم عليها أو هى متعارضة مع مبدأ معاينة الحقوق؛ فى تلميح لاستمرار بعض القضاة فى الاستفادة من علاوات مرتبطة بأداء الوظيفة القضائية رغم شغل بعضهم لوظائف لا علاقة لها بمرفق العدالة ، وطبعا مع تمتعهم بما يربط بتلك الوظائف من علاوات وامتيازات وهذا نص المقال:

طالعتُ ظُهرَ أمس، كغيري من المهتمينَ بالشأنِ العامّ، بياناً شديد اللّهجةِ لنادي القضاةِ، اعتبر فيه تعميم وزارة المالية القاضي بتأكيد الحضور الفعلي للموظفين في إطار تنقيحها ومراقبتها لكتلة الأجور، مساساً بمبدإ الفصل بين السلطاتِ، والقانون النّظامي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاء.

وإسهاماً في توسيعِ زوايا النّظرِ التّحكيميِ، وتعميقِ مستوياتِ الفهمِ القانوني، وإزالة اللبس عن اختلاف دلالات المبادئ القانونية باختلافِ الميادين والحقول؛ تراءى لي، أن أشارِكَ على نحوٍ سريعٍ، التوضيحاتِ التالية:

 

أولا: فيما يتعلّق بالجانب الشكلي للتعميم

يجدر التذكير بأنّ التعميم مُوجهٌ حصرا إلى الوزراء ومسؤولي الهيئات العمومية. وذلك، يجدُ مُبرّره القانوني في أن رأس السلطة في الوزارة المُصدرة للتعميم، هو الوزير المُكلّف بالمالية، سواءً تجسد ذلك التكليف في بتحضير الميزانية، أو رسم خطط السيولة، أو متابعة ومراقبة تنفيذ الميزانية، وهو المسؤول أمام البرلمان عن توازنات وفاعلية واستدامة المالية العامة، والمبدأ القانوني على حد تعبير وينستون تشرشل (Winston Churchill) أنّه حيثما تكون المسؤولية فثمة السلطة، وهي هنا إسقاطاً، سلطة الاختصاص في إصدار التعميم القاضي بتنقيح الرواتب ومراقبتها، باعتبار المسؤولية عن شفافية وجودة تسيير كتلة الأجور بصفتها بندا من أهم بنود النفقات وأكثرها خصوصية.

أما المُخاطبون به، فهم على وجهِ الحصرِ، الوزراء ومسؤولو الهيئات العمومية، وذلك يجد مرتكزه القانونيِ، في كونهم “الآمرون الرئيسيون بالصرف” بمقتضى المادة 59 من القانون النظامي المتعلق بقوانين المالية (LOLF)، والخطابُ موجّه إليهم بصفاتهم تلك، أي باعتبارهم متدخلين في عمليات تنفيذ النفقات، لا بصفاتهم رؤوس سلطات إدارية، ولا بالأحرى قضائية.

معنى ذلك على سبيل التوضيح، أن التعميم مجرّد مراسلة إدارية بين جهتين إدارتين منتميتينِ إلى سلطة وحدة هي السلطة التنفيذية، ولا يعني باي حالٍ من الأحوالِ، السلطة القضائية، ولا بالأحرى نادي القضاة، لأنه لم يكون ضمن المخاطبين به (إلى:..) حتى يكون في محتوى خطابه، مساساً بمبدإ بالفصل بين السلطات، أو لا يكون.

غاية ما في الأمرِ، أنّه تعميمٌ إداريٌ من الوزارة الوصية على المالية العامة، إلى مسؤولين إداريين بصفتهم آمرين بصرفِها، حول ترتيباتٍ إدارية مالية تتعلّقُ بقوائم ووضعيات الموظفين المثبتة لوجودهم الفعلي لتعلّقها بضبط وشفافية تسيير كتلة الرواتب والأجور.

شأنه شأن تعميمات تحضير وتنفيذ الميزانية، المنصوصة في المادة 22 من المقرر رقم 2022/196 المتضمن إجراءات وجدولة برمجة الميزانية (Modalité، procédure et calendrier de programmation budgétaire) التي تصدر كل سنة.

 

ثانيا: فيما يتعلّق بالجانب الموضوعي للتعميم

يجدر في هذا الصدد، التوقف عند عن حقيقة قانونية مبثوثة في مختلف النصوص التشريعية والتنظيمية، وهي أنّ القضاة، دون أن يكون في ذلك مساس باستقلاليتهم، يخضعون إلى ثلاثة أنواع من الوصاية تختلفِ باختلافِ الموضوع والحقل؛ وهي على النحو التالي:

ــ قضائياً، أي بصفتهم لِسان التشريعِ الذي ينطق به، أو بتعبير اوضح خلال ممارساتهم لوظائفهم القضائية، يخضعون للقانون فقط. (المادة 7 من النّظام الأساسي للقضاء)؛

ــ إدارياً، أي بصفتهم موظفين عموميين، يخضعون لسلطة وزير العدل (المادة 6 من النظام الأساسي للقضاء)؛ مع تقييدِ التأديب والعقوبة والتحويل برأيِ المجلس الأعلى للقضاء (المادة 8 من النظام الأساسي للقضاء)؛

ــ ماليا، أي بصفهم “أعباء مالية”، وهذا ما يبدو أنه غاب تماماً، يخضعون لوصاية الوزير بالمُكلّف بالمالية باعتبارهم بندا من بنود الميزانية (نفقات الأشخاص) الواقعة تحت سلطته، والمنصوصة في المادة 18 من القانون النظامي المتعلق بقوانين المالية (LOLF).

وانطلاقاً من ذلك وتأسيساً عليهِ، يتعين توضيح الآتي:

  1. ضرورة التمييز في هذا الصدد، بين السلطة على نفقات الأشخاص التي هي اختصاص وزير المالية، وبين السلطة على مهام وأداء الأشخاص التي هي اختصاص وزير العدل وفي بعض جوانبها اختصاص المجلس الأعلى للقضاء.

 

  1. ضرورة التمييز بين تعليق الرّاتب باعتباره عقوبةً للموظّف، وتعليق الراتب باعتباره عبئاً مالياً غير مبرر، أي نفقة غير متوفرة وثائقها التبريرية (Pièces justificatives) أو متعارضة مع مبدأ معاينة الحقوق والالتزامات (Principe de constatation des droits et des obligations).

الأول اختصاص لدى الوصاية الإدارية والقضائية هدفه الردع والزجر، والثاني اختصاص لدى الوصاية المالية هدفه توثيق النفقات وانتظاميتها.

وتعزيزا لذلك، يتعين بمقتضى المادة 42 من القانون النظامي المتعلق بالقوانين المالية (LOLF) في كل قانون مالي أصلي، إرفاق وثيقة الميزانية بقائمة الموظفين في جميع القطاعات، وهو ما يمنح الوزير المكلّف بالمالية باعتباره صاحب الاختصاص المسؤول الأول عن تحضير قانون المالية وجميع ملحقاته ووثائقه، بمراسلة وزراء القطاعات ومسؤولي الهيئات العمومية في شأن الأشخاص، سواء تعلق ذلك بوضعياتهم القانونية، أو بالوثائقِ المُثبتة لوجودهم الفعلي.

إلى ذلك، وتوضيحا أكثر لصلاحية وزارة المالية الأوسع، يتعين التذكير بالتالي:

– أنّ القضاة من منطلق كونهم فئة من فئات الموظفين العموميين، يخضع اكتتابهم لتأشيرة وزير المالية بدل الوزارة المعنية، ذلك باعتباره “صاحب الاختصاص” في توفير الاعتمادات المالية، ولإلزامية خضوعِ كل مشروع نص قد يؤدي إلى تخفيض الإيرادات أو إلى زيادة الأعباء لموافقته (أنظر الفقرة الأخيرة من المادة 9 من القانون النظامي المتعلق بقوانين المالية)؛

– أنّ الوزير المكلف بالمالية بدل القطاعات الأخرى، هو من يُحدّد إجراءات تسيير رواتب جميع الموظفين بما فيهم القضاة، والجدول الزمني المُتعلق بتسديدهم، وكذا المعاشات.

– أنّه بمقتضى المادة 59 من القانون النّظامي المتعلق بقوانين المالية، للوزير المكلف بالمالية في إطار مسؤوليته عن ضبط الميزانية والتقيد برصيدها الذي يحدد القانون المالي، أن يُجمّد الاعتمادات المالية عند الاقتضاءِ، إذا بدا له تدهور الظروف الاقتصادية.

ثالثا: بخصوص المساس مبدأ الفصل بين السلطات

يبدو لي، أنه غاب عن الأذهانِ في هذا المضمارِ، أن ذكر مبدإ الفصل بين السلطاتِ في معرِض الحديث عن مجال صلاحياتِ وزير المالية ووزير العدل غير مستقيم في المنطق القانوني، وذلك لسبب بسيط، هو أن وزارة المالية، ووزارة العدل كل منهما تمثل وجهاً من أوجهِ سلطة واحدة، هي السلطة التنفيذية، وعملهما معاً أياً كانت طبيعته يندرج ضمن عمل هذه السلطة، وهذا معناه على سبيل التوضيح، أنّ الحديث عن المساس بمبدإ الفصل بين السلطاتِ (Principe de séparation des pouvoirs) غير واردٍ بين الوزارتين.

وهنا، يتعين توضيح خصوصية الحقل، ذلك أنّه في هذا السياقِ، يُستعاض عن مبدإ الفصل بين السلطاتِ بمبدأ تنافي الوظائف (Incompatibilité des fonctions)، وهما هنا، وظيفة المُحاسبة التي تشغلها وزارة المالية، ووظيفة الأمر بالصرف التي تشغلها وزارة العدل، لأنّه لا وجود لسلطتين يتعين فصلهما.

وما يمكن أن يُثار في هذا المضمار، هو حصرا تداخل الاختصاص لا المساس بمبدإ الفصل، وإذا كان الاختصاص، هو القدرة القانونية، -على حدّ تعبيرِ لافريير Laferrière- التي تُعطي للسلطة العامة (وزارة المالية إسقاطاً) حقّ القيامِ بعملٍ معيّنٍ، أو لنُقل، إذا كان هو الرُخصة القانونيّة -وفق تعبيرِ ايسمان Essman- التي تمنحُ الشخصَ القانونيَّ الحقّ في ممارسةِ نشاطٍ معيّنٍ أو القيام بتصرّفٍ معيّنٍ على صورةٍ تضمنُ شرعيّته؛ فإنّه انطلاقاً مما سبق ذكره، يتجلى واضحاً وجليا، اختصاص وزارة المالية في اتخاذِ الإجراءِ محل الاستنكار لمسؤوليتها الرئيسية عن ضمانِ أمن واستدامة المالية العامة، واحترام الالتزامات الدولة المتعلقة بالتوازنات الميزانية والمالية، وما يستدعي ذلك من رقابة شفافية وجودة التسيير في مختلف اوجهه سواء كان تعلق بالنفقات كما هو الحال في كتلة الرواتب والأجور، أو بالإيرادات كما هو الحال في محصلية العدل.

والواضحُ فيما يبدو، أنّ التعميم لم يُفهم بعدُ داخل سياقهِ ومن منطلق مرتكزاته وآفاقه، وإلا، فلا تمكن المزايدة على قطاعِ العدل، ولا نادي القضاةِ، في الحرصِ على الشفافية وجودة التسيير، والوعي بضرورةِ التعاون والتنسيق والتبادل لضمان الحكامة الرشيدة التي هي أهم وآكد محاور برنامج وتعهدات السلطة العليا في البلد، ذلك أنّ جوهرية دورهم في الحكم الرشيد معلومَة مشهودة، وجهودهم الجبارة في تحقيقه مرصودة معهودة.

محمد سالم ولد محمد بلاه

إطار في وزارة المالية (مفتش خزينة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى