أكواخ البرلمان وخلاخيل الجيش…
شبَّه الكاتب السينغالي، عبد الله كانْ أليمانْ، الدول التي تبني مؤسسات لا تُحسن استخدامها بجنسٍ من القرود الإفريقية يبني أكواخا شبيهة بأكواخ البشر. لكن القردة لا تسكن تلك الأكواخ، وإنما تتسلَّى بتسلُّقها والقفز من فوقها.
“القرودُ، يقول ألِيمانْ، لا تدري أن الأكواخ تقي من البرد والمطر والحيوانات المفترسة، ولا تدرك أن الكوخ رمز للحضارة والثقافة والتاريخ، وأنها مكان نعيش فيه ونحب ونموت، إلى آخر كلامه.”
إن هذا التقريب البديع يذكٍّرنا دوما بما يصول في مؤسسات الدولة الموريتانية، ويجول في مرافقها ومقدراتها من عبث وتدمير، بدءا بالوزارة والإدارة والذاكرة، إلى البنك المركزي ومحكمة الحسابات والمفتشية العامة، ومن المجلس الدستوري واللجنة الوطنية للانتخابات والحالة المدنية، إلى التجارة والأسواق وقوانين المرور وأسس العمران وعقارات الدولة… وها هي الجمعية الوطنية قد صارت أشبه بمجموعة واتساب عشائرية.
وليس طيش المؤسسات – بطبيعة الحال – كطيش الأفراد!
قبل ذلك بأسبوع، انتُهكت حرمة الأكاديمية العسكرية لمختلف الأسلحة بأطار والتقطت من حفلها التخرجي المهيب أصوات وصور أثارت حفيظة الموريتانيين وهمَّ الكل بالتعليق عليها ونقاشها. لكن عودة ملف الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الموالي، وما تشعَّب عنه من قضية النائب والرئيس، كل ذلك شغل الناس عن غيره. ولولا التعميم المسؤول الذي نشره قائد الجيوش بعد ذلك بأسبوع لما عاد للموضوع من موجب.
صحيح أن أجيالا عديدة من هذا المجتمع تعودت على أصناف من امتهان العقل ودس الكرامة، بواسطة الحزب الحاكم والمبادرات والجولات والاستقبالات، وتهريج الإعلام الرسمي المتخلف، والظواهر البهلوانية التي لا يسد أمامها باب ولا يخلو منها تجمع رسمي أو غير رسمي. لكن القوات المسلحة كانت وما زالت هي الجهة الأخيرة المعول عليها في الحفاظ على بقاء الدولة وتأمين المجتمع. ومدارسها رمز للجد والصرامة والإعداد للقيادة والموت. ولا تحسم الحروب – حسب قائد الجيش الثالث أثناء الحرب العالمية الثانية، الجنرال الأمريكي جورج باتون – إلا في قاعات الدرس بالمدارس العسكرية.
وعندما أنهى ضابط مغمور في مدرسة سان سير الفرنسية محاضرة استشرافية متميزة حول أسلحة المستقبل واستراتيجياته، والمخاوف من التفوق العسكري للجار الألماني، لم يستوعب كثير من الساسة والعسكريين الحاضرين تلك الأفكار. لكن قائد الجيوش انبهر بها والتفت في نهايتها إلى المحاضر وخاطبه قائلا: “إن ما قلتَه مرَّ مسرعا من فوق قلنسوات هؤلاء الرجال!”
لم يكن ذلك الضابط المحاضر إلا شارل ديغول، الشخصية البارزة التي ستلعب أدوارا حاسمة في تاريخ بلادها. وهو القائل إنه بدون العَظَمة لا يمكن للجمهورية أن تكون عظيمة.”
وكان المارشال جورجي زوكوف، خريج الأكاديمية العسكرية لقيادة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، وأحد أعظم الاستراتيجيين العسكريين في كل العصور، يقول: “إن كتابة التاريخ غالبا ما تكون على يد جنود القوات البرية.”
أما فيلسوف الحرب العالمي وخريج الأكاديمية الحربية البروسية، كارل فون كلاوزيفيتش، فإنه لم يتردد بالقول “إن الأوْلى عندي هو التضحية بدولة لا يمكن إنقاذها من أجل إنقاذ الجيش!” وفعلا، قاد هذا العبقري، رفقة نخبة من زملائه الضباط، انسحابا استراتيجيا في وجه الاطضرابات الوجودية والغزو النابليوني الذي تعرضت له دولتهم؛ فنظموا صفوفهم على أرض الجار الروسي، وعقدوا التحالفات الضرورية، وعادوا بحزم فهزموا العدو واستعادوا الدولة.
إن معنى هذا، أيها الإخوة والأخوات، أنه عندما تضطرب الأمور ويقع الهرج والمرج ولا يبقى في السماء نجم يهتدى به، ولا في الأرض عمود يُسند عليه، يستطيع القادة الحقيقيون أن يتحرفوا بسرعة وبراعة، داخل البلاد وخارجها، ويسترجعوا الدولة ويؤمِّنوا المجتمع.
أما المدرسة العسكرية الإسلامية فإنها لم تزل معدنا للجد والقيم وبناء الدول والحفاظ عليها، من مدرسة خالد بن الوليد التي أسهمت بشكل لافت وخاطف في التصدي للهزات الوجودية وتوسيع الدولة، إلى مدرسة صلاح الدين الأيوبي الذي وحد في القرن الثاني عشر أرض المسلمين في الشرق الأوسط. وكان يقول مقالته الخالدة: “إن النصر لا يتحقق بالأسلحة، وإنما بالهمة.”
لم تزل في موريتانيا مؤسسات كثيرة منتجة وقابلة للبقاء والتطوير ونموذج بيروقراطي ومرافق وخدمات… وقد أثبت الكل فائدته وضرورته. لكن قلَّ من هذا كله ما يعمل اليوم بانتظام وبالمعايير القانونية والعصرية السليمة، التي تجعلها قابلة للبقاء وثقة الجميع واحتكامه إليها.
وكثيرا ما عبَّر الوطنيون الواعون عن قلقهم على الدولة وخوفهم من انهيار مؤسساتها ومرافقها وخدماتها. والغريب أن أكثرهم لم يشعر حتى الآن بأن الانهيار قد حصل فعلا في خدمات ومؤسسات ومرافق اجتماعية وفنية وسيادية عديدة.
أتدرون لماذا لم يشعر هؤلاء الطيبون بالانهيار؟ لأن الخدمات العمومية القليلة والرديئة المتاحة اليوم في موريتانيا لا تقدم منها الدولة شيئا يذكر، خصوصا الخدمات الاجتماعية. بل إن الدولة لا تفرِض على تلك الخدمات من النظام والرقابة إلا ما يدرُّ جباية هنا، أو يبرر نفقة هناك، أو يضمن صفقة. إنه أمر مرعب !
حتى أنظمتنا الفاسدة كانت – على فسادها – تترك للدولة هامشا تتنفس به وتتغذى.
جاء في كتب التاريخ الأموي أن شباب تميم ونساءهم أتوا مرارا إلى سيدهم الأحنف بن قيس يشكونه صنيع ربيعة والأزد. تارة يقولون له إنهم قد دخلوا الرحبة، فيقول لستم بأحق بالمسجد منهم. وتارة يقولون له إنهم قد دخلوا الدار، فيقول لستم بأحق بالدار منهم. ثم أتته امرأة بمجمر فقالت مالك وللرئاسة، فلم يحرك ساكنا. كل ذلك خوفا من الفتنة القبلية والرجوع إلى عصبية الجاهلية. حتى إذا أتوه يوما وقالوا له إن عُلَيَّةَ بنت ناجيةَ الرَّياحي قد سُلبَت خلاخيلها من ساقيها. عندها وقف الأحنف وعقد لواء الحرب لصاحبه!
وإذا كان في ما بقي من مؤسساتنا من رَياحية فهي، بلا شك، القوات المسلحة. وإذا كان في ساقَيْ تلك المؤسسة من خلاخيل فهي، بلا شك، الأكاديمية العسكرية لمختلف الأسلحة بأطار.
أما البرلمان، فإنه يُحَل بجرة قلم، ويُزوَّر بجرة قلم، ويُؤْمَر بجرة قلم.