سعر صرف الأوقية وعلاقته بالقدرة الشرائية.. الاقتصاد والديموقراطية وأشياء أخرى…

تانيد ميديا :

 سعر صرف الأوقية وعلاقته بالقدرة الشرائية.. الاقتصاد والديموقراطية وأشياء أخرى

شهدت السنوات الثلاثة الماضية (2020، 2021، 2022) تحسنا مستمرا في سعر صرف الأوقية، والسؤال الأكثر إلحاحا من طرف المواطن العادي هو ما فائدة ارتفاع قيمة الأوقية مقابل العملات الصعبة في ظل اضطراب أسعار السلع الأساسية، وهل سينعكس ذلك عاجلا أم آجلا على القدرة الشرائية، وما علاقة الميزان التجاري المتمثل في العلاقة بين الصادرات والواردات بسعر صرف الأوقية.

ومن المسؤول عن ارتفاع الأسعار وخاصة أسعار المواد الأساسية، ولماذا إذا ارتفعت الأسعار لدينا فإنها نادرا ما تعود إلى سابق عهدها؟ ؛ هل المسؤولية تقع على عاتق الحكومة أم تجار الجملة ورجال الأعمال، وما علاقة كل ذلك بسعر صرف الأوقية، وما هي علاقة سعر الصرف بالصناعة الوطنية وزراعة الاكتفاء الذاتي، وما علاقة الديموقراطية والاستقرار السياسي بالاقتصاد، وما مدى شرعية حزب الدولة، وماذا عن ترشيح المتقاعدين العسكريين للمناصب الانتخابية.

ولماذا تسوء الأوضاع الاقتصادية مع بداية مأمورية كل رئيس موريتاني، وما علاقة ذلك بالاستراتيجيات والخطط الاقتصادية على المستويات المتوسطة والطويلة الأجل، ولماذا الازدهار الاقتصادي ليس عابرا للمأموريات وإنما هو زوبعة في فنجان مع كل “قائد ملهم” جديد.

إن هذه التساؤلات الجوهرية والواردة هي ما يتعطش الكثيرون اليوم إلى سماع أجوبة شافية عنها بطريقة مبسطة مفهومة لعامة الناس، بعيدا عن مصطلحات وأدبيات الاقتصاد الكلي والجزئي وما يتعلق بهما من توازنات كبرى ونمو اقتصادي وعجز وفائض وتقشف ورفاه مشترك وتضخم وركود وانكماش.. إلى غير ذلك،  وهذا ما جعلنا نتطرق لهذا الموضوع بما يمكننا من معرفة طريقة تسيير اقتصاد الدولة من طرف الحكومات والنخب الحاكمة.

ولا شك أن صانعي القرار الاقتصادي الموريتاني يطبقون السياسات الاقتصادية ويحيطونها الكثير من الاعتبار في الوقت الراهن أكثر من أي وقت مضى، وربما تشغلهم الأمور الفنية وتطبيقها أكثر من اهتمامهم بمدى استيعاب المواطنين العاديين للخطط والاستراتيجيات الاقتصادية، كما ان النخب الاقتصادية من أساتذة جامعيين وغيرهم يتداولون المواضيع الاقتصادية بشكل أكثر منهجية وعلمية وحيادية لكن ذلك يبقى حبيس محراب المحاضرة وقاعة الدرس.

ليبقى رجل الشارع تحت رحمة مروجي الشائعات والمغالطات، التي لا تحمل إجابات شافية وواضحة في صلب الموضوع تشفي الغليل عن مدى صدقية أو خطأ مسارات التنمية الاقتصادية التي ترتبط بها جميع مناحي الحياة من غذاء ودواء وتعليم وطرق.. وبشكل عام البنية التحتية الاقتصادية والزراعية والصناعية.

مقدمة

ليست هناك دولة في العالم تتمتع باستقلالية كاملة بمواردها ومنتجاتها وإنما هناك تكامل بين الدول في كافة مناحي الحياة، والذي يهمنا هنا هو الجانب الاقتصادي الذي يتم تسييره بين الدول من خلال العملات الوطنية مع بعضها البعض، والتي كانت مع بداية ظهور الدولة الوطنية مقومة بالذهب، ولتشجيع الاستقرار المالي تم في اتفاقية :بريتون وودز” 1944 تثبيت قاعدة الاعتماد على الذهب وقابلية تحويل الدولار وبعض العملات الأساسية إلى ذهب مقابل مبلغ معين من الدولار لكل أونصة ذهب.

وبعد تخلي الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1971 عن استبدال الدولار إلى ذهب أصبحت العملات الوطنية للدول مقومة في سوق تبادل العملات بالدولار واليورو وبقية العملات الصعبة، وذلك كوسيط للتبادلات التجارية، وبالتالي فإن العملات الوطنية يتم المضاربة عليها في التبادلات التجارية كسلعة تخضع للعرض والطلب،

لذلك فإن العرض والطلب على الأوقية مثلا سيتبع للميزان التجاري لموريتانيا باتجاه بقية دول العالم والمتمثل في الإيراد والتصدير، فكلما زادت حاجتنا للسلع الأجنبية واضطررنا إلى استيرادها كلما زاد الطلب على العملات الصعبة التي هي وسيط التبادل وبالتالي سيقل المعروض منها لدينا وسترتفع قيمتها وبالتالي تنخفض قيمة الأوقية، وكلما أنتجنا سلعا تحتاجها الدول الأخرى أدى ذلك إلى ارتفاع المعروض لدينا من العملات الصعبة وبالتالي ترتفع قيمة الأوقية.

ومن هنا فإن العملة الوطنية تعتبر رمزا للسيادة الوطنية، وبها تقاس متانة الاقتصاد ومكانة الدولة.

فما هو موقع الاقتصاد الموريتاني بين الدول التي تصنف من المنظور الاقتصادي إلى دول غنية ودول فاشلة ودول مفلسة، وما هو مدى تأثير ما تصدر وتنتج موريتانيا مما تحتاجه الدول الأخرى وما مدى تنوعه، وماذا عن الصناعة الموريتانية وهل تملك مواد أولية، وهل تأكل مما تزرع وهل تلبس مما تنسج وهل تنتج دوائها وبقية احتياجاتها الرئيسية من أسمدة وعلف حيوانات..

ولا بأس لو عرجنا على موضوع الديموقراطية لعلاقتها بالاستقرار السياسي الذي يعتبر ركيزة أساسية للنهوض بالاقتصاد.

مع الأخذ في الاعتبار أنه عادة من المنظور الاقتصادي ينتظر من الخطط والبرامج الاقتصادية إنجاز مشاريع كبيرة وضخمة في مدى متوسط يتراوح بين 7 إلى 15 سنة ومدى طويل يتراوح بين 15 إلى 30 سنة، كما أن عطاءها تستمر مردوديته إلى أكثر من 33 سنة من تدشينها أو إنتاجها مثل مخرجات التعليم والبنية التحتية الطرقية.. وقد تستمر مردوديتها إلى مائة سنة مثل السدود والجسور.. وثلاثمائة سنة مثل شركة اسنيم ومشاريع الغاز..

وعلى سبيل المثال إذا افترضنا مشروع إنجاز صرف صحي متطور لمدينة نواكشوط سيكلف أموال باهظة، تقدر بأكثر من مليار دولار، مع العلم انه كان ينبغي رسم مخططه والبدء في تنفيذه سنة 1980، فبإمكاننا التخطيط لذلك على تسع فترات في كل واحدة منها يتم إنجاز إحدى مقاطعات نواكشوط التسع على مدى 40 شهرا، لتكون التكلفة حوالي 40 مليار أوقية قديمة موزعة على ثلاث سنوات، وعليه سيكتمل المخطط على 360 شهرا وهو ما يساوي 30 سنة، وبالتالي فإن معضلة الصرف الصحي سيتم تسويتها بتكلفة سنوية بسيطة قدرها 12 مليار أوقية، خلال فترة 30 سنة التي تعتبر فترة قصيرة مقارنة مع عمره الافتراضي المقدر ب: 300 سنة، وهكذا بالنسبة لاستصلاح 90 ألف هكتار لإنتاج القمح على مدى 15 سنة.. إلخ

وإذا اعتبرنا سنة 2019 سنة مرجعية فماذا قدمت الخطط والاستراتيجيات خلال الثلاثين السابقة للسنة المرجعية وماذا ننتظر إنجازه في أفق سنة 2049، أي الثلاثين سنة الجارية.

المبحث الأول: الاقتصاد الموريتاني؛ خلفية تاريخية 1960 إلى 2019

خلال السنوات العشر الأولى من الاستقلال (1960-1970) لم يكن تعداد سكان موريتانيا قد وصل مليون نسمة موزعة بشكل متساو تقريبا على مساحة البلاد الشاسعة، ويعتمد السكان على الاكتفاء الذاتي من الرعي والزراعة التقليدية، وتصدير العلك الذي كان يعتبر سلعة نقدية إلى جانب نظام المقايضة بالحبوب الأكثر تداولا بدلا من عملة سيفا الرسمية آنذاك، ولم يكن صيد الأسماك معروفا سوى لدى 13 قرية من إيمراكن، كما أن عائد الحديد لم يتجاوز نسبة 1% من شركة ميفرما،

مما جعل الضغط على الخطط والبرامج الحكومية يتمثل أساسا في التعليم؛ حيث يمثل من تقل أعمارهم عن 14 سنة نسبة 45% من السكان، إلى جانب الصحة بسبب انتشار الأمراض والأوبئة، والطرق البرية الريفية المعبدة لترامي أطراف البلاد ذات المساحة الشاسعة،

لكن موجتي الجفاف الأولى (1968- 1973) والثانية (1983- 1985) سببت ركودا اقتصاديا ما زلنا نعيش تبعاته إلى غاية اليوم، فمنذ الثمانينيات أهمل المخططون الحكوميون وضع برامج واستراتيجيات لتطوير الأساليب والمسلكيات المتبعة في تنمية الثروة الحيوانية التي كانت تنتهج البحث عن المرعى والكلأ بشكل عشوائي، والزراعة التي كانت تقليدية مرتبطة بمعدلات هطول الأمطار والعمل اليدوي، وما على شاكلتهما من زراعة النخيل والخضروات.. والزراعة المروية التي بدأت مع بناء سد “دياما” سنة 1986 الذي أوقف فيضان مياه المحيط المالحة، وسد مانانتالي الذي مكن من التحكم في مخزون مياه النهر العذبة، بعد تشكيل منظمة استثمار النهر السنيغالي من طرف موريتانيا والسنيغال ومالي، ولاحقا غينيا.

كما أن تضاعف عدد سكان إلى 2 مليون نسمة خلال الثمانينات فاقم مشاكل الغذاء والصحة والتعليم والبنية التحتية، وأضاف إليها تحديات ومشاكل حضرية جديدة متعلقة بالنقل الحضري والصرف الصحي إلى غير ذلك،

وخلال منتصف الثمانينات لجأت موريتانيا لأول مرة إلى المؤسسات الدولية التي اقترحت برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الموريتاني، وذلك بعد تسلم السلطة من طرف ولد الطائع إثر انقلاب عسكري، لكن برنامج الإصلاح فشل فشلا ذريعا بسبب الفساد الإداري والمالي وانعدام الشفافية وعدم وجود كوادر ذات كفاءة للإشراف على تنفيذه،

وقد نُفذ في تونس نفس برنامج الإصلاح الهيكلي في ظروف مشابهة، فقد بدأت البرنامج سنة 1986 وتسلم السلطة بن على سنة 1987 بعد انقلاب عسكري، ونجح في تنفيذه رغم مساوئ حكمه، وأعاد جميع الديون بحلول 1993، وتمكن من إنقاذ اقتصاد تونس وأعاد ثقة الممولين والمجتمع الدوليين للدولة التونسية.

ومع ذلك استطاع ولد الطائع كسب بعض الوقت خلال عقد التسعينات بإقامة المسلسل الديموقراطي، وتوثيق العلاقات مع المجتمع الدولي على حساب المقدسات وحرية التعبير والإعلام، مع التخبط في إدارة الاقتصاد الوطني الذي لم يفلح تدخل المؤسسات الدولية في إنقاذه من خلال برنامج مكافحة الفقر وسط التسعينات وما تلاها، وإنما تفاقم تدهور الاقتصاد الموريتاني بسبب الفساد الإداري والمالي وانتشار المحسوبية والوساطة وانهيار القيم مع انهيار التعليم وانتشار الفقر والمرض والأمية،

وخلال الثلاثين السنة التالية المتمثلة في الفترة بين 1985 إلى 2015 أعلنت موريتانيا إفلاسها 10 مرات، مما يعني أنه خلال تلك الفترة الذهبية التي استمرت ثلاثين سنة وازدهرت فيها الكثير من الدول الفقيرة مثل الصين وتركيا وفيتنام وسنغافورة وروندا.. وشهدت ظهور الانترنت ونهضة النمور الآسيوية بقيت موريتانيا تراوح مكانها بين الإفلاس وإعادة إعلان الإفلاس.

وقد عانت بعض تلك الدول من أزمات ومطبات أكثر مأساوية مما تعرضت له بلادنا، ففي فيتنام التي تعرضت لعدوان أجنبي ونشبت فيها حرب أهلية، بدأت في تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي 1990 أصبحت بموجبه في العقد الأخير من أسرع اقتصادات العالم نموا، كما أن الدولة الإفريقية روندا التي عانت من حرب أهلية بداية التسعينات راح ضحيتها مليون نسمة بدأت برنامج إصلاح اقتصادي مع تسلم بول كاغامي الحكم سنة 2000، بموجبه صار اقتصادها اليوم هو الأسرع نموا في إفريقيا، وأصبحت من اهم وجهات المستثمرين والسياح في العالم.

وقد ازدادت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية سوءا في موريتانيا مع تضاعف أعداد السكان كما فاقمت عقود من الزمن المهدورة الوضع الاقتصادي الهش، بدون إنجاز تنمية اقتصادية واجتماعية، أحرى وضع خطط وبرامج اقتصادية لمواكبة التطور التكنولوجي والعلمي الذي جعل من اقتصاديات الدول اقتصادات إنتاج واقتصادات معرفة، في ظل الثورة التكنولوجية،

كما أجهض الانقلاب العسكري سنة 2008 فرصة النهوض بالاقتصاد الموريتاني بعد أن وُضعت الخطط والبرامج والاستراتيجيات لذلك، وحصلت موريتانيا كمكافئة لها على تصالحها مع ذاتها على وعد بتمويل ضخم قدره 4,1 مليار دولار نصفها منحة والنصف الأخر ديون متوسطة إلى طويلة الأجل مع فترات سماح مريحة،

وابتداء من سنة 2009 تم تمويل الاقتصاد الموريتاني عن طريق مليارات اسنيم في ظل ارتفاع خام الحديد نتيجة ارتفاع الطلب الصيني لإنجاز البنية التحتية الصينية إلى 180 دولار للطن، وكذلك القروض والمساعدات الأجنبية إلى غاية 2014 حيث تراجع سعر الحديد الخام إلى حدود تكلفة الإنتاج، حوالي 30 دولار للطن، وتراكمت الديون من جديد بدون إنجازات اقتصادية قادرة على الوفاء بها، وهذا ما يعني أن موريتانيا كانت تعيش حالة إفلاس غير معلن أو إفلاس مؤجل خلال السنوات 2015 إلى 2019.

 

المبحث الثاني: المعايير الاقتصادية لتصنيف الدول

 

من أجل معرفة موقع موريتانيا من الناحية الاقتصادية لا بد من المرور بتصنيف الدول حسب المعايير الاقتصادية، حيث تصنف الدول إلى ثلاث مستويات هي كما يلي:

1- الدول الغنية

هي دول مثل بقية دول العالم لم تصل إلى ما وصلت إليه من مكانة بأمور خارقة للعادة وبعضها لا يمتلك ثروات طبيعية، وإنما بسبب أن نخبها المحلية اتفقت على وضع دساتير وإطلاق عملية ديموقراطية أفرزت نخب تخدم المجتمع والاقتصاد والسياسة، وذلك وفق منهج حسن التدبير للموارد المالية، وترشيد الإنفاق العام للدولة وعملت على فتح المجال أمام الاستثمار الخاص ورسمت أنجع السبل لتحقيقه، مع الشفافية اللازمة على مستوى الأعمال والمقاولات، مع احترام الحريات وإقامة دولة المؤسسات والعدل والمساواة إلى غير ذلك مع تطوير التعليم والبحث العلمي، والأخذ بناصية التكنولوجيا والمعرفة والرقمنة والاستخدام الأنجع لها لبناء الاقتصاد وتطوير الصناعة والزراعة..

2- الدول الفاشلة

هي الدول التي تنتمي في الأساس إلى الدول النامية التي سيرتها في الغالب نخب فاسدة موروثة من الاستعمار سيطرت على جميع مفاصل الدولة وركزت على رعاية مصالحها الخاصة وتوارث المناصب العامة في الدولة وأهملت بناء الاقتصاد والتعليم وبالتالي فشلت هذه الدول على جميع الأصعدة، وشهدت هجرة الأدمغة والكفاءات من مهندسين وجامعيين نظرا لتهميشهم المتعمد، وبالتالي فهذه الدول توصف بأنها دول فاشلة لأنها تتخبط في مستويات عالية من الفساد ولديها مديونية كبيرة ونسب عالية من البطالة واقتصادها غير قادر على خلق فرص العمل وعلى خلق النمو الاقتصادي وخدماتها الاجتماعية من تعليم وصحة وبنية تحتية رديئة جدا والنقل العمومي رديء جدا،

وبالتالي فهذه الدول الفاشلة ليست جديرة بالثقة من طرف المؤسسات الدولية وشركاء التنمية والمستثمرين الأجانب، كما أن المشاكل الاقتصادية والسياسية لهذه الدول الفاشلة تنعكس على الأسواق العادية المحلية وعلى تعاملات المواطنين فيما بينهم كما تؤثر على قدرة المقاولات الوطنية على التعامل مع الشركاء الأجانب.. وبالتالي فهذه الدول الفاشلة هي دول في طريقها إلى الإفلاس في أي لحظة، كما انها معرضة للثورات الشعبية وانعدام الامن والاستقرار.

3- الدول المفلسة

يختلف إفلاس الدول عن إفلاس الأفراد والشركات، فنقول إن الدولة مفلسة إذا عجزت ماليتها العامة عن الوفاء بالتزاماتها اتجاه الدائنين من شركاء ومؤسسات دولية، واتجاه كل الشركاء والمؤسسات التي تربطها معها علاقة، وكذلك اتجاه مواطنيها؛ كعدم قدرتها على سداد رواتب الموظفين ومقدمي الخدمات العمومية من مقاولين وموردين ووجود مشاكل في توفير السلع في الأسواق المحلية، خصوصا إذا كان اغلبها مستوردا من الخارج يتم دفع قيمتها بالعملة الصعبة، وبالتالي لم يتبق لديها سوى إعلان إفلاسها للدائنين من أجل الدخول في مفاوضات لجدولة ديونها، والبحث عن تمويلات ومساعدات لمحاولة العودة من جديد إلى جادة الطريق الصحيح.. وقد وصلت إلى هذا المستوى العديد من البلدان النامية، إضافة إلى بعض الدول المتقدمة التي أساءت نخبها التدبير في فترة معينة وتورطت في مستويات عالية من الفساد مثل الأرجنتين واليونان..

وهنا نلاحظ أن موريتانيا تقع في تصنيف الدول الفاشلة والدول المفلسة.. وذلك طيلة الفترة الممتدة بين 1970 إلى 2019. على الرغم من امتلاكها ثروات طبيعية ومقدرات كبيرة.

 

المبحث الثالث: الاقتصاد والديموقراطية

 

يمكن اعتبار الديموقراطية تراثا إنسانيا تطور عبر الزمن وما يزال قابلا للتطوير والتحسين بما يلائم المكان والزمان، كما أنها قابلة لمراكمة بعض الأعراف والتقاليد بما يلائم مختلف الشعوب حسب خلفياتها وما يناسبها، وبالمختصر المفيد تقوم الديموقراطية في الأساس على التفوق العددي كمعيار لتداول السلطة والمناصب الانتخابية، وذلك في إطار الصراع بين المؤسسة العسكرية ورجال الأعمال والمجتمع والشعبويين من مختلف الاتجاهات،

وذلك مع احترام الدستور ومبدأ فصل السلطات وغيره من المبادئ الأساسية للعيش المشترك، وضمان الاستقرار، وإعطاء الثقة والصلاحيات للمنتخبين مع الرقابة والمحاسبة في نهاية المأموريات.  مع وجود معارضة يفترض أن تكون وطنية ووفية لمبادئها، وأيضا مع ضرورة بناء توافقات سياسية بين مختلف الأطراف المتصارعة غالبا ما تكون هشة وقابلة للمراجعة في أي وقت حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلد،

وعموما من أجل حصاد نتيجة الديموقراطية لا بد من توفر عدة عوامل مساعدة نذكر منها:

– منح الثقة اللازمة للمنتخبين لإنجاز مهامهم المنوطة بهم، لأن الديموقراطية تقوم على بعدين أساسيين وهما تقييد السلطة بالدستور والقوانين وبرقابة ممثلي الشعب والقضاء والإعلام والمجتمع، والبعد الثاني تمكين السلطة من الصلاحيات والموارد والقدرة على تنفيذ القرارات، وإذا لم يكن هناك توازن بين البعدين فإن السلطة تبقي عاجزة أو مشلولة.

– إعداد الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والإصلاحات الهيكلية من طرف خبراء وطنيين أكفاء، واستبعاد النخبة الفاشلة والفاسدة والغير كفؤة، والتي هيمنت على مسارات التنمية الاقتصادية قبل المسار الديموقراطي، مما أدى إلى هجرة الكفاءات والأدمغة إلى الخارج.

– تَوفر أموال ضخمة لتمويل تلك البرامج والخطط سواء عن طريق الديون والموارد الريعية وترشيد الميزانيات عن طريق التقشف، والمكافحة الصارمة للفساد الإداري والمالي، الذي استشرى بسبب غياب المؤسسات الديموقراطية الرقابية.

– توفر الوقت الكافي وبذل مجهودات مضاعفة من أجل تنفيذ تلك الأسس والخطط والبرامج لتكون المأموريات الانتخابية حلقات متواصلة في برنامج التنمية الاقتصادية وليست فقاعات للاستهلاك الاعلامي لملء فراغ تلك المأموريات.

– وجود حاضنة للرئيس المنتخب يستند إليها أو ما يسميه ابن خلدون بالعصبية التي يعتبر أنه لا غنى للحاكم عنها ليستتب له الأمر ليكون في سعة من أمره من أجل البناء والتعمير.

وبناء عليه فإن المسلسل الديموقراطي ليس عصا سحرية لتقدم الشعوب، إلا إذا ترافق مع مطلبين أساسيين على الأقل، أولهما: نظام تعليمي ناجح بامتياز، فمخرجات الديموقراطية لا تجدي نفعا إذا لم تكن الأجيال متعلمة تتقن الاختيار، وتجد منتخبين أكفاء لاختيارهم، وعليه فلا فائدة ترجى من الانتخاب الذي هو أساس العملية الديموقراطية، والثاني هو خطط وبرامج اقتصادية واجتماعية تمَكّن من النهوض بالبلد، فالانتخاب ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو لاختيار الأصلح والأكثر كفاءة وتعويض من لم تتوفر فيهم الكفاءة بشكل مستمر،

وهذا مع وجود الكثير من التحديات المباشرة المتعلقة بحجب الثقة وتدخل المؤسسة العسكرية.. وغير المباشرة مثل الجفاف والكوارث الطبيعية.. والتي قد تحول دون إنجاز أي تقدم اقتصادي واجتماعي، وبالتالي فإن الديموقراطية لا تحقق استقرارا سياسيا.

وبناء عليه فلا يمكن فصل الاقتصاد عن الديموقراطية؛

والفترة المرجعية التي حددنا المتمثلة في 30 سنة كمجال للنهوض بالاقتصاد والبنية التحتية الاقتصادية هي نفسها تقريبا عمر المسلسل الديموقراطي في موريتانيا الذي بدأ سنة 1991، ومن الواضح بداهة فشل هذا المسلسل الديموقراطي الصوري الذي كان مرتكزه البقاء في الحكم، في ال: 15 سنة الأولى من عمره، أي حتى انقلاب 2005،

ولا مجال للحديث عن منظومة تعليمية ناجحة ولا عن إنجازات اقتصادية واجتماعية في هذه الفترة وإنما عكس ذلك تماما، وحتى أن هذا المسلسل لم يتمخض سوى عن إنجازات على مستوى العمل السياسي مثل بطاقة التعريف الرقمية وتحديد المأموريات وتقليص فترتها إلى غير ذلك، لأن النخبة تسعى للوصول إلى السلطة وأغلبها لا يهمه الواقع الاقتصادي والاجتماعي المزري.

ومع انتخابات مارس 2007 التي أبهرت العالم وصل أول رئيس مدني إلى سدة الحكم في عهد الديموقراطية، والذي كان اقتصاديا يعرف مدى صعوبة النهوض باقتصاد بلد بعد عقدين من الفساد، لكنه استلم البلد على ركيزتين أساسيتين هما “عفا الله عما سلف” و”إعفاء الدين الموريتاني” وبدء صفحة جديدة مع المؤسسات الدولية وشركاء التنمية الذين وعدوا ب: 4.1 مليار دولار  نصفها ديون والنصف الآخر منح،

لكن سرعان ما استعجلت النخبة الموريتانية ونظيرتها العسكرية الحشد لحجب الثقة، واللتان تتوقان إلى الوصول إلى السلطة، وإن كان الأمر بدرجة أقل بالنسبة للمؤسسة العسكرية التي تورطت في تجربتها مع السلطة خلال الفترة ما بعد 1978، والتي دخلتها ولم تكن قد عرفت مدى إكراهات وصعوبة إدارة المؤسسات السياسية والاقتصادية للدولة المدنية الحديثة،

وقد دفعت الثمن غاليا من خلال صراع أفرادها على السلطة والعجز عن النهوض بالاقتصاد الوطني الذي يحتاج إلى خبرة اقتصادية وإدارية لا تتوفر إلا لدى المدنيين، وربما كان تسليم الرئيس المؤسس للسلطة طواعية للانقلابيين سنة 1978 رغم علمه بالانقلاب على اعتبار أنه فخا لا يمكنهم النجاة منه، بينما ربما رأى أن صراع المدنيين والعسكريين على السلطة قد يؤدي في ذلك الوقت إلى حرب أهلية لا تحمد عقباها.

وقد أضاع الشعب الموريتاني سنة 2008 فرصة عظيمة، وهو الذي لا توصله مداركه العقلية وخبراته المعرفية إلى أن النهوض بالبلد يتطلب الكثير من الصبر والمجهود والوقت، ففي سنة 2008 كان كل ما يعرفه المجتمع الموريتاني أن أوضاعه كانت سيئة للغاية وأنها ازدادت سوءا، على الرغم من أن الرئيس المنتخب سيد محمد ولد الشيخ عبد الله الذي وصل إلى الحكم بطريقة ديموقراطية وضع الخطط والاستراتيجيات الاقتصادية اللازمة للبناء والتعمير، وأقنع الممولين بشطب الديون وإعادة التمويل، ولم يدرك الشعب الموريتاني في ذلك الوقت أن ما أفسدته 37 سنة لا يمكن إصلاحه في سنة وثلاثة أشهر، ومن البديهي أن تغيير رئيس الجمهورية برئيس جديد لن يغير من الأمر شيئا.

وبالتالي استغل عرابو انقلاب أغشت 2008 الفرصة للانقضاض عليه وتوريط المؤسسة العسكرية التي كانت نأت بنفسها من خلال تسليم السلطة ابريل 2007، بعد مرحلة انتقالية قصيرة، وذلك بالتحالف مع أحد أفرادها، ربما من جهة انتقاما (من العسكر بالعسكر) لانقلاب أغشت 2005، ومن جهة اخرى أنانية منها للحصول على انتخابات رئاسية مبكرة تمكنها من الوصول إلى الحكم لأنه في انتظار مأمورية كاملة أو مأموريتين سيسير قطار العمر ببعضهم خارج سكة المجال الذي يسمح لهم به الدستور للترشح، لتتم إعادة نفس سناريو انقلاب يوليو 1978، وإن بدرجة أقل وضوحا.

هذا مع أنه حسب رأي الخبراء السياسيين من المثالية إن لم يكن من السذاجة تصور عدم تدخل المؤسسة العسكرية في الشأن السياسي وذلك ببساطة لكونها تمتلك أرفع مستوى من القوة وهو سلاح البندقية الذي يمثل القوة الحاسمة كما أنها تمتلك المعلومات الاستخباراتية والاستراتيجية، لكن حياد المؤسسة العسكرية يتمثل في تجنبها تصدر المشهد السياسي وأن لا تكون صاحبة الكلمة الفصل في القرار السياسي،

وتبقى إشكالية المتقاعدين العسكريين، هل هم مدنيون يمكن ترشيحهم في المناصب الانتخابية أم لا؟  ويرد هنا خبراء السياسة على هذا الإشكال بأنه لا حرج في ذلك بشرطين أساسيين: أن تكون الديموقراطية عريقة، وأن يكون ذلك ضمن أعراف وتقاليد البلد في الممارسة الديموقراطية.

ويحضرني هنا نموذجين، الأول هو الرئيس الأمريكي الرابع والثلاثون أيزنهاور لفترتين رئاسيتين، وهو جنرال أمريكي متقاعد يحسب له فتح وكالات البحث العلمي سنة 1964 أمام المدنيين بعد أن كانت محتكرة على المؤسسات العسكرية وعينهم في أرفع المناصب وذلك في إطار  ما أطلق عليه “هبة شعبية وطنية” لمنافسة المعسكر الشرقي وهو ما تمخضت عنه الثورة التكنولوجية التي غيرت مجرى التاريخ،

والثاني هو بول كاغامي الرئيس الروندي الذي استولى على الحكم سنة 2000 وتولى رئاسة روندا بتزكية من البرلمان، وبعد إقرار الدستور سنة 2003 تم انتخابه رئيسا للجمهورية وكان رائد النهضة الاقتصادية الرواندية.

كما أننا مع ذلك في غنى عن القول أن الأنظمة الديموقراطية هي الأكثر نجاحا، وهي التي تنجح اقتصاديا، علاوة على أنها هي التي تفوز في كرة القدم، وهي التي تكون لها الغلبة في الحروب ولدينا نموذج النظام الديكتاتوري لبوتين فنتيجة انعدام الشفافية والرقابة كان الجنرالات الفاسدون يقدمون معلومات مغلوطة عن الجاهزية العسكرية مما أوحى للقيصر الأعظم بوتين إمكانية الدخول في حرب على أوكرانيا بالإمكان الظفر فيها خلال أيام معدودة حسب المعلومات المتوفرة على مكتبه الرئاسي، لكن نتيجة لأن المعلومات مغلوطة استمرت الحرب عدة أشهر بهزائم كبيرة للجيش الروسي.

وهناك نماذج مؤسفة من تدخل المؤسسة العسكرية في الدول العربية، ففي تونس كانت هناك محاولة انقلاب سنة 1962 على لحبيب بورقيبة والسبب المباشر كان هو النزعة التحديثية في برنامجه للنهوض بتونس، وفي الجزائر تم اغتيال محمد بوضياف من طرف المؤسسة العسكرية بعد إعلان نيته مكافحة الفساد الإداري والمالي بلا هوادة لأنها أكبر متورط فيه،

وفي مصر سنة 2013 انقلب العسكر على الديموقراطية انتقاما من ثورة الربيع العربي، عن طريق حركة تمرد، وقد فشلت حركة تمرد التونسية المستنسخة منها في الانقلاب على الديموقراطية، إلى أن نجحت الشعبوية في ذلك على يد قيس اسعيد يوليو 2021، بعد تجربة ديموقراطية على مدى عقد من الزمن فشلت في النهوض باقتصاد تونس، لأن برنامج الاصلاحات الاقتصادية الهيكلية بقي على طاولة تسع حكومات، ليتم تأجيل تلك الاصلاحات تسع مرات، بعد إعادة تقييم التصنيف الائتماني لتونس تسع مرات، وذلك بسبب إعاقتها من طرف الاتحاد العام للشغل ورجال الأعمال.

وهكذا فبالعودة إلى السنة المرجعية 2019، فإننا إذا نظرنا إلى الحصيلة الاقتصادية للثلاثين سنة السابقة لها سنجدها فارغة من إنجازات اقتصادية فالشعب الموريتاني يتطلع إلى ما سينجزه الرئيس المنتخب، كما جرت العادة به من تحريك صوري ووهمي لعجلة الاقتصاد بواسطة تبديد الميزانيات في برامج استثمار وتشغيل مؤقتة وجلب ديون ومساعدات أجنبية لتمويل شراء الحاجات الأساسية للشعب،

وكأن الاقتصاد الوطني يدار على شكل بقالة كبيرة مادام الموظفين فيها يتقاضون رواتبهم وتحصل على أموال بطريقة أو بأخرى لتوريد البضائع فإن الأمور تسير على ما يرام، لكن واقع الحال من منظور الاقتصاد هو بكل بساطة تأجيل الإفلاس إلى حين انتخاب رئيس جديد،

وبحسب الدراسات الاقتصادية فإن تمويل الاقتصاد بالديون والمساعدات وخفض قيمة العملة هو تأجيل لإفلاس الدولة إلى مدى يتراوح بين 7  إلى 10 سنوات، وهذا ما حدث في العشرية السابقة لسنة 2019، كما رأينا آنفا، فابتداء من سنة 2009 تم تمويل الاقتصاد الموريتاني عن طريق مليارات اسنيم والقروض والمساعدات الأجنبية إلى غاية 2014 حيث تراجع سعر الحديد الخام إلى حدود تكلفة الإنتاج وتراكمت الديون، وهذا ما يعني أن موريتانيا كانت تعيش حالة إفلاس غير معلن أو إفلاس مؤجل خلال السنوات من 2015 إلى 2019.

بالإضافة إلى ذلك واجه الرئيس المنتخب سنة 2019 حملات تنمر إلكترونية كبيرة من طرف ما يعرف في الدراسات الديموغرافية ب: “الجيل z” أو من يلقبون “المواطنون الرقميون” الذين يصنفون أنهم من مواليد بداية التسعينات إلى سنة 2010، والذين تربوا في كنف التكنولوجيا والانترنت بخلاف آبائهم من ” الجيل x” الذين عايشوا فترة الصحف والراديو والتلفزيون، وهي الفترة الذهبية الأكثر استقرارا، إذ أنهم من مواليد 1960 إلى 1980.

وقد تأثر “الجيل z” بالعالم الرقمي وأصبحوا يبحثون عن الحلول السريعة، كما أنهم تأثروا بالهزات الاقتصادية والثورات التي أحدثها الانترنت مما ولد لديهم الشعور بانعدام الأمن والاستقرار.

كما أن “الجيل y” الذي يتوسط بين “الجيل x” و”الجيل z” والذين يصنفون (الجيل y) أنهم مواليد بداية الثمانينات إلى بداية التسعينات قد دخلوا عالم السرعة بعد بلوغهم سن الرشد، ويتميزون بالخفة والقلق والسرعة والتسرع، على الرغم من ذلك هم الأكثر استفادة من الجانب الإيجابي من الانترنت بالرغم من استغلال بعضهم السلبي لها لتضليل الجيل z الذين هم الغالبية العظمى من معجبيهم على وسائط التواصل الاجتماعي.

كما واجه الرئيس المنتخب سنة 2019  أزمة محاولة نزع “عصبيته” بالمفهوم الخلدوني التي يتكئ إليها كسند شعبي وهو المعروف في تقليد الديموقراطية الموريتانية بحزب الدولة وهي الأزمة التي عرفت بأزمة المرجعية.

كما تصف المؤسسات الدولية موريتانيا أنها شديدة التأثر بالأزمات السياسية والاقتصادية الإقليمية والدولية، وهكذا فإن “الرئيس المنتخب سنة 2019” واجه كذلك جائحة كوفيد وتبعاتها من حجر صحي وتوقف سلاسل الإمداد سنة 2020 و 2021، كما واجه موجة التضخم العالمية بسبب الحرب الأوكرانية الروسية سنة 2022،

وقد شهدت دول الجوار الموريتاني منذ 2019 اضطرابات سياسية حادة عمت دول الجوار الأربعة، فقد شهدت الجزائر احتجاجات 2019 أدت إلى استقالة عبد العزيز بوتفليقة وتأجيل الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات، وأعادت أحداث معبر الكركارات 2020 أزمة الصحراء الغربية إلى الواجهة، كما حدث انقلابان عسكريان في مالي 2020 و 2021، وشهدت السنيغال احتجاجات عنيفة ودامية 2012 بسب اعتقال المعارض عثمان سونكو.

كما أسالت محاكمة العشرية الكثير من الحبر واعتبر البعض أنها أضاعت الكثير من الوقت لكنني أعتبر أن نظام العشرية بعد أن اتخذ من الديموقراطية ذريعة للحكم (لم يكن هناك مبررا لإعلان حالة طوارئ) فإنه من مسلماتها التي رأينا آنفا أنها تقوم على مبدأ تمكين السلطة مع ضرورة المحاسبة، فما دام استغل سلاح تمكين السلطة لمأموريتين فلا بد أن يسلط عليه سيف المحاسبة، كما أنه كان هناك إجماع في المرحلة الانتقالية 2006 على ضرورة عدم تكرار الفساد الذي أنهك الحرث والنسل وتبني فكرة “عفا الله عما سلف” كمرتكز لانطلاق التنمية الاقتصادية، وكسد للذريعة مستقبلا، بعد عقود من تخلف موريتانيا عن ركب الأمم، وعليه فلا مجال للتغاضي عن المحاسبة، وإذا اتفقنا أن انقلاب 2008 كان جريمة ينبغي المحاسبة عليها هي الأخرى، فإنه لو لم تسلم النخبة والمجتمع أمر الانقلاب لكان مصيره كمصير الانقلاب العسكري 2016 في تركيا، لكن مادامت النخب والمجتمع هما صاحبا الجرم فمن سيحاسب من؟

لقد واجه الرئيس المنتخب سنة 2019 محمد ولد الشيخ الغزواني منذ البداية صعوبات اقتصادية ومالية كبيرة، لكنه كان مدركا لواقع البلد وصريحا مع الشعب في تصريحه بمناسبة زيارة مستشفى الشيخ زايد بتاريخ 20 ديسمبر 2019 حيث قال بالحرف 《 عليكم أن تفهموا أن هناك ضغطا كبيرا ولا بد من الكثير من الصبر و أن تكونوا مطمئنين بأننا لن نبخل شيئا، لكن الظروف ليست سهلة》،

وأعتبر أنه كان موفقا في ذلك، فقد كان هذا التصريح بالمنطق الاقتصادي بمثابة إعلان إفلاس الدولة الموريتانية الذي كان إفلاسا غير معلنا أو إفلاسا مؤجلا طيلة السنوات 2015 إلى 2019، لكن الشعب الموريتاني لا يهتم سوى بالتصريحات السياسية، فلم يهتم الإعلام الموريتاني وحتى الحكومة الموريتانية بتلك التصريحات حتى صدور بيان من وزارة الخارجية الموريتانية 22 ديسمبر 2020، والذي كان بمثابة إعلان الإفلاس رسميا، والذي تضمن إعلان عجز موريتانيا عن أداء خدمة الدين الخارجي. وذلك بعد سنة كاملة من إعلانه من طرف غزواني في زيارة مستشفى الشيخ زايد.

ففي لبنان على سبيل المثال كانت هناك تصريحات حول عجز الدولة اللبنانية من طرف نائب رئيس الوزراء ابريل 2022 في برنامج تلفزيوني، وقد قامت الدنيا بسببها ولم تقعد في لبنان، وكانت محاولات رئيس الوزراء لتهدئة الشارع اللبناني كمن يصب النار على الزيت، رغم أن تلك التصريحات كانت عابرة، فلم يكن هناك قرار حكومي بإعلان الإفلاس،

على عكس تصريحات صاحب أعلى هرم للسلطة في موريتانيا التي ربما كانت عن سبق إصرار، وربما كانت زيارة مستشفى الشيخ زايد مفتعلة لذلك الغرض، وقد أثارت بالفعل موجة تنمر كبيرة، خاصة أنها كانت مؤسسة للتوجه نحو مسار جديد مخالف لما كان يجري عليه الحال في المأموريات السابقة من الأخذ بعين الاعتبار رأي الشارع أو بالأحرى الناخب، ومحاولة تلبية رغباته المستعجلة بطريقة آنية تتضمن تبديدا للموارد، وقد كان في ذلك مراعاة للمصالح العليا التي تناقض الرغبات الشعبية،

وهذا يشبه إلى حد كبير ما حدث في اليونان، البلد الديموقراطي، غداة إعلان إفلاسها سنة 2015، فقد اشترط الاتحاد الأوربي والمؤسسات الدولية تنفيذ حزمة تقشف قاسية وبرنامج إصلاح اقتصادي وعندما عرضها البرلمان اليوناني على الشعب في استفتاء عام كان قرار الشعب هو رفض تلك الاصلاحات بنسبة كبيرة وصلت 61.3 %، لكن الحكومات اليونانية لاحقا قامت بتنفيذ تلك المقترحات، مخالفة بذلك رغبة الشعب لأن في ذلك إنقاذً للبلد من الانهيار.

وهذا من وجهة نظري كان قرارا صائبا فكما أنه ينبغي البدء الفوري في إصلاح التعليم مثلا، على الرغم من أن مسيرة التعليم من السنة الأولى الابتدائية إلى تسلم شهادة الدكتوراه تستغرق 20 سنة، فهي إذن ستتم عبر أربع مأموريات رئاسية، وسيستفيد البلد من تلك الخبرات والكفاءات ابتداء من المأمورية الخامسة،

وهكذا سيكون الحال بالنسبة للتنمية الاقتصادية والإصلاحات الهيكلية التي ينبغي أن ينطلق قطارها بصفة استعجالية بغض النظر عن أي اعتبار آخر؛ فمشروع الصرف الصحي مثلا سيتم كما ذكرنا آنفا عبر ست مأموريات وزراعة القمح عبر ثلاث مأموريات،

اللهم إلا إذا استطاع النظام الحالي الحصول على تمويلات ضخمة كما حدث مع الزعيم جمال عبد الناصر، حيث تمكن من الحصول على قرض بمليار دولار من الاتحاد السوفياتي (تم إعفاءه لاحقا) لإنجاز مشروع السد العالي (استغرق إنجازه 12 سنة) الذي أوقف 5 آلاف سنة من فيضانات نهر النيل سنة 1972 وكان خزانه المائي هو العمود الفقري للنهضة الزراعية في مصر.

وعلى الرغم من تزاحم الأولويات وقلة الإمكانيات كان لابد من مراعاة الجانب الاجتماعي للتخفيف من وطأة التركة الثقيلة للثلاثين سنة الماضية في صورة التركيز على دعم الأسر الضعيفة والتأمين الصحي وتنفيذ مشروع تآزر الضخم والبدء الفوري في إصلاح التعليم إلى غير ذلك.

المبحث الرابع: سعر صرف الأوقية وعلاقته بالقدرة الشرائية

أولا : تمهيد

كما رأينا آنفا فإن العملة الموريتانية الأوقية تخضع كغيرها من العملات لقانون العرض والطلب، ففي التبادل التجاري مع الدول ما هو مدى حاجتنا لسلع ومنتجات دول العالم وماذا يحتاج العالم من سلعنا ومنتجاتنا،

ولا نحتاج هنا للرجوع إلى الأرقام والمعطيات الاقتصادية فمن الواضح أن فاتورة استهلاكنا كبيرة من العالم الخارجي من حاجاتنا الأساسية من غذاء ودواء وأسمدة وسيارات.. ومختلف الكماليات والأساسيات الضرورية، وهذه الفاتورة الضخمة سندفعها بعملات تلك الدول التي نشتري منها مثل المغرب والجزائر والسنيغال والصين وفرنسا وبلجيكا.. أو على الأصح بمبالغ مقومة بالعملات الصعبة الدولار واليورو والين.. بقيمة تلك الفواتير من عملات تلك الدول المختلفة، وهذا ما سيجعل طلبنا كبيرا على تلك العملات.

وحسب قانون السوق كلما زاد الطلب على سلعة (العملات الصعبة) زاد سعرها، وقل المعروض منها، وعليه سيرتفع سعر صرف العملات الصعبة وبالتالي تنخفض قيمة الأوقية.

فمن أين سندفع تلك الفاتورة الضخمة من العملات الصعبة؟ سنرى أيضا أنه في الجانب الآخر لا بد من معرفة أن لدينا بعض دول العالم تحتاج منا سلعا ومنتجات هي الأخرى، لكن للأسف الشديد ليس لدينا سوى مواد أولية ريعية خام نصدرها بأسعار متقلبة مثل الحديد والسمك.. وليست لدينا منتجات أو صناعات أو زراعة لا تغطي سوى القليل من الاكتفاء الذاتي، وعليه فإن طلب بقية دول العالم على الأوقية سيكون قليلا جدا، وحسب قانون السوق كلما انخفض الطلب على سلعة (الأوقية) انخفضت قيمتها.

من هنا سيكون لدينا عجزا في الميزان التجاري متمثلا في الفرق بين قيمة الواردات الكبيرة وبعض الصادرات، وعليه سيترتب على ذلك الكثير من المشكلات الاقتصادية نذكر منها:

– عجز البنك المركزي عن توفير العملات الصعبة التي نحتاجها لاستيراد البضائع، وتلجأ الدولة للمساعدات والقروض لمنع ارتفاعها، لكن حسب الدراسات الاقتصادية ففي ظرف 7 إلى 10 سنوات، ستتراكم الديون ويتراكم العجز ويزداد بسبب الزيادة السكانية، ولن يكون بإمكان البنك المركزي مواصلة كبت صعود العملة الصعبة التي سترتفع دفعة واحدة بشكل مفاجئ.

– خضوع الأسعار في موريتانيا إلى تقلبات الأسعار الدولية نتيجة الأزمات الخارجية، كما حدث في الجائحة بسبب الحجر الصحي وتوقف سلاسل الإمداد، وبالتالي فإننا عرضة للتضخم المستورد، وفي اعتمادنا على الخارج بشكل كامل قد لا نستطيع توفيرها في السوق الوطنية كما حدث مع المملكة العربية السعودية التي يغلب عليها الطبيعة الصحراوية وليس بإمكانها زراعة القمح لكنها  تستورده من روسيا، وقادرة على توفيره في سوقها بالكميات اللازمة، وذلك لوجود ثروة النفط الريعية التي توفر لها العملة الصعبة، لكن بسبب حرائق روسيا 2010 التي دمرت حقول القمح انقطع الإمداد، مما جعلها تستأنف زراعته في الصحراء بتكاليف إنتاج مضاعفة لتكاليف زراعته في الاراضي الزراعية وكذا تؤجر أراضي زراعية في بلدان أخرى.

وفي هذه الظروف هناك أحد احتمالين لحلحلة هذه الأزمة الاقتصادية، الأول منهما هو الحلول الجاهزة والعاجلة وذلك بإعلان الإفلاس وتخفيض قيمة العملة الذي سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار بشكل صاروخي نتيجة ارتفاع أسعار صرف العملات الصعبة مقابل الأوقية مما سيؤدي إلى تقليل الواردات نتيجة ضعف القدرة الشرائية، وزيادة قيمة الصادرات التي نحصل على ثمنها بالعملة الصعبة، لكن هذا التحسن في قيمة الصادرات سيكون طفيفا، لأنه من الناحية  الاقتصادية لن تستفيد من هذا النوع من الحلول الجاهزة والمؤقتة سوى الدول التي تمتلك صادرات كثيرة ومتنوعة، ريعية وصناعية وزراعية إلى غير ذلك،

كما أنه من الحلول الجاهزة إعادة جدولة الديون بشروط قاسية للحصول على ديون جديدة،  والبحث عن المساعدات لتوفير حاجيات السوق والشركات من العملات الصعبة، والدخول في دورة جديدة من إعادة تدوير الفساد والمفسدين وإساء التدبير، وحلقة مفرغة من الإفلاس وإعادة إعلان الإفلاس، أما الاحتمال الثاني هو الحلول المتوسطة والطويلة الأجل عن طريق برنامج للإصلاح الهيكلي للاقتصاد ووضع خطط واستراتيجيات اقتصادية طويلة المدى.

 

ثانيا: الاصلاحات الهيكلية والخطط والاستراتيجيات الاقتصادية

 

تتمثل الاصلاحات الهيكلية في تحسين الأداء الحكومي بتعيين حكومة ذات كفاءة، وإمدادها بأعوان من أصحاب الخبرة والنزاهة من مهندسين وجامعيين، مع العلم أن الاكتتاب في موريتانيا توقف في جميع القطاعات عدا الصحة والتعليم خلال الفترة 1985 إلى 2005، تطبيقا للتقشف الذي أوصى به الممولون الدوليون، وكما رأينا آنفا فشلت برامج الإصلاح، وكانت النتيجة هي توطيد أعوان الإدارة لوظائفهم بالرغم من أنهم نخبة من المفسدين لا يفقهون شيئا عن مادتي الحواسيب ومبادئ الاقتصاد اللتان تدرسان في المرحلة الاعدادية والثانوية في اغلب دول العالم.

ومن الاصلاحات الهيكلية مراجعة التشريعات والقوانين، وتحسين مناخ الأعمال، وتيسير مصادر التمويل بالكفاءة والشفافية اللازمة للابتكار والابداع والنهوض بريادة الأعمال، واعتماد التكنولوجيا والرقمنة في الإدارة، ففي الدول الغنية التي رأينا آنفا نجد أن 40 إلى 50 % من القوى العاملة يعملون في مؤسسات الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي بدأها أفراد عاديون، وبعضها أصبح مؤسسات عملاقة مثل أمازون وآبل وفيسبوك..

وكذلك تشجيع الاستثمار الأجنبي، وبصفة خاصة تشجيع الدول الشقيقة والصديقة، فدولة الإمارات العربية الشقيقة على سبيل المثال لا الحصر، لديها 20 شركة زراعية تستثمر أكثر من 40 مليار دولار في 60 دولة، و 2 مليار من هذه الاستثمارات كفيلة بالنهوض بالبنية التحتية الزراعية في موريتانيا.

كل ذلك من أجل تفعيل دينامية الاقتصاد الوطني، وترشيد الموارد وحسن تدبيرها للتمكن من إدارة أعباء الدين الخارجي الموروث، وتوفير الموارد اللازمة للاستثمار، خاصة في المجال الصناعي، مع التركيز على البرامج الاجتماعية للفئات الضعيفة والهشة، ووضع خطط واستراتيجيات اقتصادية متوسطة وطويلة المدى للتخفيف من وطأة التركة الثقيلة والأعباء التي خلفتها العقود الماضية ومحاولة سد الثغرات في آجال محددة.

كما أنه للنهوض بالاقتصاد الوطني لابد من وضع خطط واستراتيجيات متوسطة وطويلة المدى، تغطي 30 سنة المقبلة، تمثل في مجملها رؤية موريتانيا أفق 2049،

إن شركة اسنيم التي هي العمود الفقري للاقتصاد الموريتاني طيلة الخمسين السنة الماضية بعد تأميمها سنة 1974، وثاني أكبر شركات الحديد في إفريقيا، أنشأتها الإدارة الاستعمارية بمبالغ ضخمة على أرض أجنبية واستغرق تشييدها 11 سنة (1952 – 1963) في أجواء مقاومة المستعمر وحركات التحرر وقساوة المناخ الصحراوي الموريتاني لكنهم مع ذلك أكملوا تشييدها واستخرجوا الحديد وقاموا بتصديره لمدة 11 سنة (1963- 1974).

وبالعودة إلى موضوعنا الرئيسي، فقد اعتمدنا سنة 2019 كسنة مرجعية، ومن أجل تقييم المرحلة الراهنة، سنأخذ كمثال البنية التحتية الطرقية، من قطاع النقل، فإذا اعتبرنا أننا دخلنا في مرحلة إصلاح اقتصادي وترشيد الموارد خلال السنوات الثلاثة الماضية 2020-2022، وتمكنا من توفير مبلغ 100 مليار اوقية قديمة، نصفها لإعادة ترميم وتأهيل 700 كلم على طريق الأمل وطريق بوكى- كيهيدي، والنصف الآخر لإنشاء طرق جديدة، ومدة الإنجاز هي سنة وثمانية أشهر، لذا كان لزاما علينا انتظار خمس سنوات من أجل تحقيق هذا الإنجاز، لكن إذا علمنا أن العمر الافتراضي للطرق المعبدة وفق المعايير الصحيحة والصيانة اللازمة هي 33 سنة، عرفنا أنه يستحق ذلك ففك العزلة لا شك سيحسن القدرة الشرائية للمواطنين بتخفيف تكاليف نقل الأشخاص والبضائع وتسهيل إقامة المشاريع الاستثمارية إلى غير ذلك.

ويمكن ان يقاس على ذلك بقية المشاريع المنجزة من طرف بقية القطاعات، وكذا مشاريع تآزر، إضافة إلى إنشاء وزارة للرقمنة ووزارة للتنمية الحيوانية والهبة الزراعية من خلال وزارة الزراعة، ومكافحة الفساد وتحويل تبعية المفتشية العامة من الوزارة الاولى إلى رئاسة الجمهورية..

إلى غير ذلك من تعزيز الزراعة والصناعة الوطنية وفتح 12 منطقة عسكرية أمام المنقبين وإنشاء شركة معادن موريتانيا للإشراف والمتابعة، مما سيعزز اقتصادنا الوطني وينوع صادراتنا لسد العجز في الميزان التجاري.

إن مشاريع الغاز والهيدروجين الأخضر مشاريع واعدة ستدر أموالا ينبغي استغلالها وترشيدها من أجل إنجاز بنية تحتية اقتصادية للنهوض ببلادنا من أجل تغيير الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما يتطلب الكثير من الصبر، وبذل مجهودات جبارة من الجميع

المشري محمد المختار الرباني / أكاديمي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى