بداه ولد البصيري
العلامة بُدّاه ولد البصيري مفتي موريتانيا وعالمها الأبرز، مارس التدريس والإرشاد والتوجيه، وتولى إمامة أول جمعة في البلاد بعد استقلالها، وكان الداعية الأكثر حضورا وتأثيرا في العامة وأصحاب السلطة منذ الاستقلال وحتى وفاته عام 2009.
المولد والنشأة
ولد الشيخ بُدّاه (واسمه الحقيقي محمد) ولد حبيب ولد أحمد ولد البصيري عام 1920، في منطقة الترارزة في الجنوب الغربي الموريتاني، بعد أربعة أشهر من وفاة والده، وتربى في حجر جده لأمه العلامة محمد ولد حبيب الرحمن، الذي تولى رعايته وتربيته وتعليمه.
الدراسة والتكوين
بدأ رحلته العلمية مبكرا كما هو شأن أقرانه في زمانه، فحفظ القرآن وهو دون التاسعة من عمره ودرس العلوم الشرعية فقها وتفسيرا ولغة ومنطقا وبلاغة، وأخذ عن عدد كبير من العلماء في ذلك العصر من بينهم الشيخ أحمد ولد أحمذيه.
وأضاف إلى الأخذ عن الشيوخ المطالعة الدائمة وقراءة كتب الأصول والفروع، وبعدئذ شملت مطالعاته كتب الدراسات الإسلامية، فكان رغم انشغاله بالتدريس يحرص على قراءة الفكر الإسلامي الحديث، والدراسات المتعلقة بالقضايا الإسلامية المعاصرة.
استكمل بداه علوم عصره على شيوخه وتصدر للتدريس في بادية أهله، فالتحق به طلاب كثر لينهلوا من علمه، وبدأ يقدم دروسه، وكان كلما زاد الطلاب ازدادت رغبته في الاستقرار، ويروى عنه أنه كان يسأل الله أن ييسر له منزلا في الحضر يقرأ فيه كتبه.
وفي عام 1958 نزل بحي “لكصر” بنواكشوط الذي كان يومئذ يتكون من منازل قليلة، فأقام محظرته ومسجده، وانطلق يدرس ويفتي ويصلح بين الناس، وحافظ على دروسه العامة وخصوصا درس التفسير الذي بدأه في مساجد البادية، وكان يولي درس التفسير عناية خاصة، رغم أن علم التفسير لم يكن مطروقا كثيرا في المحاظر الموريتانية آنذاك.
التوجه الفكري
تميز منهج بداه ولد البصيري الفكري بالاعتدال والتمسك بالأصول مع الحرص على الاستفادة من الفقه وتراث الأمة، فزاوج بين المحافظة على الفروع وتشجيع الاستنباط والاجتهاد، واختط طريقا يرفض الجمود الفروعي تماما كما يرفض إلغاء الفقه وتراث العلماء، مؤسسا بذلك ما اعتبر معالم فقه تجديدي داخل المدرسة المالكية.
وكانت قواعد جمع الأمة عنده مقدمة على ما عداها، وكان يصد محاولات الوقيعة بينه ومخالفيه مذهبيا أو طرقيا، وينقل عنه أحد طلابه أنه كان يقول اشتغلت زمانا بإقناع الفروعيين بالتبصر، والمتبصرين بالاستفادة من التراث الفقهي، حتى إذا ظهرت نابتة الإلحاد والعلمانية اتجهت لإقناع الناس كلهم بأصل الإسلام والتخلي عما عداه من نحل ومذاهب.
وقد اشتهر بمواقفه الصلبة ضد محاولات الأنظمة وبعض النخب الموريتانية تمرير بعض القوانين التي رأى فيها خطرا على الهوية الثقافية للبلد، فقد تصدّر الحملة ضد مشروع دستور 1982 الذي اعتبره مخالفا للشريعة الإسلامية، ووقف ضد التطبيع مع إسرائيل أيام حكم الرئيس الموريتاني معاوية ولد سيد أحمد الطايع، واستنكر علنا اعتقالات الإسلاميين سنة 1994.
ولم تقتصر مجاهرته بالحق على القضايا المحلية، فقد جاهر في خطبة الجمعة باستنكار مجزرة النظام السوري في حماة سنة 1982 الأمر الذي أثار حفيظة الحكومة السورية فاحتج سفيرها في نواكشوط، وحين خاطب الرئيس الموريتاني محمد خونا ولد هيدالة الشيخ بداه في ذلك -بحسب بعض الروايات- رد عليه “أنا لا أخاف منك ولا من غيرك، وإذا كنت ستتحكم فيما أقول وما أرى فخذ المنبر ودعني أذهب لشأني”.
وإلى جانب الشدة في الحق، كانت حياته -بحسب العارفين به- حياة علم وعمل وورع، ويصفه أحد طلابه بأنه كان “شحنة من الإيمان، ووهجا من القرآن، وقبسا من السنة، تسر به النفوس، وتنتعش به القلوب وتقتات منه العقول، وكان مدرسة إيمانية عملية تتجاوز المنطق بالعرفان وأدوات الخطاب بالإيمان وتلج النفوس في يسر وسهولة”.
المؤلفات
له عدد من الكتب من بينها:
“أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج على مذهب الإمام مالك”،
و”القول المفيد في ذم قادح الاتباع ومادح التقليد”،
و”الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس”،
و”القول المبيَّن في الردِّ على من قال بالتزام مذهب معيَّن”،
و”القول السديد في الرد على أهل التقليد”.
وله مؤلفات أخرى في العقيدة والتوحيد، منها:
“تنبيه الخلف الحاضر على أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر”،
و”الدر النضيد في علم الكلام وحقيقة التوحيد”،
“تنبيه الحيارى وتذكرة المهرة في الجمع بين أحاديث الفرار والنهي ولا عدوى ولا طيرة”.
الوفاة:
توفي بداه ولد البصيري يوم 7 مايو/أيار 2009 في نواكشوط.