الأوبئة كمُهَدِّد للسِّلْم الاجتماعيّ في إفريقيا / محمد سليمان الزواوي

كثيرًا ما تعرَّضت القارة السمراء إلى موجات من الأوبئة والأمراض التي مثَّلت تهديدًا لحياة البشر في مناطق جنوب الصحراء؛ حيث كان تأثيرها في تلك المناطق أشد وطأة من غيرها لعدة عوامل؛ من أهمها: غياب البنية التحتية المناسبة للتعامل مع تلك الأوبئة والطواعين مقارنةً بمختلف دول العالم المتحضر.

فقد ضربت القارة السمراء عدة أوبئة في الماضي القريب، كان أخطرها الطاعون والكوليرا والحُمَّى الصفراء، بالإضافة إلى الجدري والملاريا والحصبة، وكان آخرها فيروس الإيبولا، ومرض التهاب السحايا، وكلها أمراض تنتشر في البيئات الفقيرة والمُهمَّشة، وتُمثل خطرًا على السكان المحليين في كافة أنحاء القارة السمراء.

واليوم يضرب فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) مختلف أنحاء العالم، وأدَّى إلى أعداد كبيرة من الوفيات والإصابات حول العالم. وبالرغم من أن الأرقام حتى الآن لا تشير إلى تفشِّي كبير في منطقة جنوب الصحراء؛ إلا أن الأرقام بدأت تتزايد في عددٍ من البلدان الإفريقية، وهو ما يجعل الأنظمة في تلك البلدان تتحسب لموجات من تفشّي المرض في تلك المناطق التي تعاني من ضعف البنية التحتية الصحية، وكذلك ضعف الوعي الصحي لدى المواطنين، بالإضافة كذلك إلى تدنّي إمكانيات تلك الدول فيما يتعلق بوفرة المستلزمات الطبية اللازمة للوقاية من المرض، فضلاً عن أجهزة التنفس الصناعي التي أعجزت بلدانا كبيرة بحجم أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا، رغم أنَّ لديها بنية تحتية لا تُقَارن بأفضل الدول الإفريقية.

وتعتبر الأوبئة أحد أهم مخاوف الأمن القومي لدى كافة البلدان، لا سيما تلك التي تمثل جائحةً وتقتل أعدادًا كبيرة من البشر؛ نظرًا لما يمكن أن يُخَلِّفه ذلك من آثار شديدة على السِّلْم الاجتماعي وعلى استقرار الأنظمة السياسية في تلك البلدان؛ فمع ازدياد حالات الوفيات يبدأ الناس في التساؤل عن ماذا أعدت تلك الأنظمة من بنية تحتية لمواجهة مثل تلك الحالات؟، وكذلك فإن الأمراض وتفشّيها من أهمّ أسباب مُحفّزات الفعل الجماعي Collective Action لدى المواطنين، ومن ثَم يحفز على إحداث اضطرابات وتظاهرات لا سيما مع تزايد عدد الحالات بين المواطنين.

إنَّ القارة السمراء حتى الآن لم ينتشر فيها وباء كورونا المستجد مقارنةً ببقية مناطق العالم، ولكن بالنظر إلى ضَعْف البنية التحتية في معظم بلدان القارة، وكذلك تواضع شبكات الطرق المُعَبَّدة، وعدد المستشفيات والأَسِرَّة مقارنةً بعدد السكان، وكذلك عدد غرف العناية المركزة مقارنةً بعدد السكان كذلك، وعدد أجهزة التنفس الصناعي، إضافة إلى المستلزمات الطبية مثل الأقنعة والقفازات، فإن احتمالية تفشّي وباء كورونا في إفريقيا يُمثّل كابوسًا لكل صُنّاع القرار الدوليين حول العالم، وكذلك المنظمات العالمية المعنية بالصحة؛ فمثل ذلك السيناريو سيمثل كارثة صحية واجتماعية وإنسانية على وجه العموم، وقد يؤدي إلى سيناريوهات كارثية لا يريد العالم مجرد التفكير بها.

فالعالم اليوم يعيش حالة من عدم اليقين، وهي مماثلة لتلك الحقب التي تعقب الحروب الكبرى والكوارث والثورات، والتي تُخلّف عادةً مشكلات اقتصادية، وتَفَجّر لقضايا اللاجئين، وتؤدي إلى عدم استقرار في اقتصادات الدول وأسعار صرف العملات والمعادن الثمينة، وأسعار الطاقة والسلع الأساسية، فالعالم لم يكد ينته بعدُ من تداعيات الثورات التي اجتاحت بعض بلدان العالم العربي وأزمات اللاجئين التي لا تزال تُمثّل أزمة للدول المتقدمة، حتى جاءت أزمة كورونا، والتي ضربت أعتى الأنظمة بداية من الولايات المتحدة ودول أوروبا، وحتى الآن فإن منحنى الأزمة يتصاعد في عدة بلدان، وتظهر موجات متجددة من تفشّي الوباء في معظم الدول، وذلك نتيجة لعدم القدرة الكاملة على غلق الحدود وحظر التجوال، بما لكل ذلك من آثار كارثية على حركة الاقتصاد العالمي بدءًا من عمالقة التصنيع في آسيا ومع أعقبه من انخفاض الطلب على النفط، ووصولاً إلى أزمات المستلزمات الطبية وأجهزة التنفس الصناعي حتى في الدول المتقدمة.

إنَّ أزمة كورونا الحالية تُمثل اختبارًا لمختلف دول العالم، ومدى تحقيقها لإنجازات فيما يتعلق بمؤشرات الحكم الرشيد، والتي من أهمها: دور الرعاية الصحية، والإنفاق على البنية التحتية لها، والإنفاق على الأمن الغذائي، والتغلب على أمراض التغذية والتقزم للأطفال، ورعاية المسنين، وغيرها، وهذا الاختبار جاء على غفلة ليضرب مختلف الأنظمة حول العالم، كما أنه يُمثّل معضلة صعبة للدول الإفريقية على وجه الخصوص، ليس فقط فيما يتعلق بإنفاقها على البنية التحتية الصحية، واستعدادها لمثل ذلك الوباء، ولكنه يُمثّل تحديًا أيضًا لمدى شفافية تلك الأنظمة فيما يتعلق بالإعلان الصحيح عن حالات الإصابة والوفيات، وكل ذلك يرتبط ارتباطًا وثيقًا كذلك بالحكم الرشيد، ومدى التزام تلك الدول بواجباتها تجاه مواطنيها.

فحتى الآن تُظْهر خرائط منظمة الصحة العالمية محدودية انتشار فيروس كورونا في إفريقيا جنوب الصحراء، ولكنَّ الأرقام تتناسب طرديًّا كذلك مع مدى شفافية الحكومات الإفريقية؛ فكلما كانت الشفافية أكثر في تلك الحكومات، وكذلك كفاءة وسائل إعلامها، وقدرة أجهزتها المختلفة على مساءلة الحكومة والرقابة عليها؛ كانت الأعداد أكثر في تلك البلدان. فعلى سبيل المثال: كانت جنوب إفريقيا من أعلى الدول إصابةً بذلك الفيروس في إفريقيا جنوب الصحراء، بما يقارب 1500 إصابة وخمس حالات وفاة حتى كتابة هذه السطور، فيما كانت حالات الوفاة في الكاميرون 8 وما يقارب خمسمائة إصابة، وبوركينافاسو 318 إصابة، ولكن 16 حالة وفاة، وساحل العاج والسنغال بما يقارب المائتي إصابة وحالة وفاة واحدة في ساحل العاج واثنتان في السنغال، وغانا خمس حالات وفاة ومائتي إصابة.

والمُشَاهَد في تلك الأرقام أن نسبة حالات الوفاة -مقارنة بعدد السكان، وكذلك مقارنة بعدد الإصابات الإجمالية- يُعَدّ كبيرًا، وهو ما يشير إلى أنَّ هناك الكثير من حالات الإصابة غير الموثقة، وذلك شيء متوقَّع بسبب تواضع مؤسسات تلك الدول في كشف المرضى والمصابين؛ سواءً مَن يتعافى أو تتفاقم حالته، ومن ثَمَّ فإنَّ تلك المُؤشِّرات تُعَدّ خادعةً إلى حدّ كبيرٍ، ومن ثَمَّ قد تُمثِّل انفجارًا وشيكًا مثل الكثير من الحالات في أوروبا التي كانت الأرقام فيها متواضعة، ثم قفزت الأرقام فجأةً؛ لتُمثّل تحديًا كبيرًا لأنظمة تلك الدول.

إنَّ حدوث حالات وفيات متزايدة في القارة السمراء مع تواضع وتدنّي البنية التحتية الصحية في كثير من بلدان إفريقيا، قد تؤدِّي إلى قلاقل اجتماعية واسعة في تلك البلدان، وقد تهدّد السِّلم الاجتماعيّ، لا سيما مع عدم وضوح موعد انتهاء تلك الأزمة في المستقبل المنظور، كما أن فرض حظر التجوال في عددٍ من البلدان أثبت خطورته أيضًا فيما يتعلق بآثاره الاقتصادية الكارثية على حركة التجارة والزراعة، ومن ثم قد يؤدي إلى نقص المحاصيل والسلع الغذائية، لا سيما في الدول التي تعاني بالفعل من نقصٍ حَادّ في المواد الغذائية والتموينية، ومن ثَمَّ فإن ذلك سيؤدِّي بدوره إلى حالات من الاضطرابات والسخط العام الذي قد يتصاعد إلى حالات مواجهات دامية؛ إذا لم تستطع الحكومات الإفريقية أن تكون على قَدْر المسؤولية فيما يتعلق بتلك الأزمة.

لا شك أن أزمة وباء كورونا المستجد هي أزمة عالمية، ولم تَنْجُ منها الدول الكبرى حتى الآن، ولكن على المدى البعيد فإن قدرة تلك الحكومات على تنظيم جهودها وتوزيع ثرواتها ومُدّخراتها على أشهر الأزمة، ومدى شفافية تلك الدول وقدرتها على الحكم الرشيد وقدرة أجهزتها التنفيذية والرقابية ستكون محل اختبار عسير في الأيام المقبلة، لا سيما مع استطالة أمد الأزمة، ومع تصاعد حالات الوفيات، لا سيما في البيئات الهَشَّة سياسيًّا، والتي تُعاني بالفعل من أزمات سياسيَّة، وحكم رشيد في القارة السمراء.

المصدر: قراءات افريقية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى