خطاب وادان.. نقطةُ البِدَايةِ في مُنْحَنَى النِّهَايَةِ
دُونَ تَعَمُّقٍ أو تَزَلُّفٍ؛
ليس من المقبول و لا من المعقول أن تمر لحظة تاريخية كهذه دون أن تنال ما يناسبها من تقدير و “مَرَقٍ”. لحظة خطاب فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، ذي الدِّلالَة المكانية و الزمانية [وادان ، 10 دسمبر 2021] خطاب اختزل لنا في كلمات حلول ظواهر اجتماعية اختزال المكان و الزمان لتشعب مسارها.
يعتقد إميل دور كايم أن الظاهرة الاجتماعية ضربٌ من السلوك المتغيِّر يمكن أن يباشر نوعا من الضغط الخارجي على الفرد. وانطلاقا من تصنيفه للظواهر الاجتماعية اعتُبرت الظاهرة الاجتماعية التاريخية أكثر ها تعقيداً؛ لأنها جملة من الأفعال والأحداث السابقة على حياة وسلوكيات مجموعة من الأشخاص في الوقت الحالي.
و من أسوئها ظاهرة التراتبية الاجتماعية ، إذ هي تعبير عن أوضاع اللامساواة القائمة بين الأفراد والجماعات في المجتمعات البشرية، على اساس المكانة والحظوة والتملك والسلطة وغيرها من “المكتسبات” المرتبطة بطبيعة كل مجتمع.
و التي غالبا ما تكون مساهمة الفرد الذاتية فيها هامشية، باستثناء نزر من الحالات الشاذة التي نجحت في اختراقها، وشقَّت لنفسها بجهدها الذاتي المحض طريقا سالكا، فيبقى الأغلب الأعم وارثا لمكانة اجتماعية لم يُجهد نفسه في تحصيلها، وهو ما يولد عقدة الاستعلاء والإستقواء و الاتِّكاء على:”كان أبي” وكان دمي أنقى أو هانَ دَمِي فَهَا نَدَمِي.
فإن كانَ أبي سَائِقًا، ثم صرت وزيرا بمجهود ذاتي ، يمكنني وفق هذه النظرية اختراق التراتبية عموديا.
لكن في موريتانيا الامر معكوس لابد من البقاء في نفس المستوى و النَّسَق التَّراتبي أي النمط:الديني العرقي الفئوي اللوني.
لم يبذل المجتمع – إلا قليلا – جهدا في علاج هذه الظاهرة فمنذ الوهلة الأولى تم تغليفها بغلاف ديني مُفترى ومشوه التنزيل يقمع كل تفكير رشيد. فبقيت عقدة الدونية المنطلقة من اللون و العرق و الحِرْفة تلاحق كل من يحاول كسر هذه التراتبية الوهمية.
“إن مما يحز في نفسي كثيرا ما تعرضت له هذه الفئات في مجتمعنا تاريخيا من ظلم ونظرة سلبية مع أنها في ميزان القياس السليم ينبغي أن تكون على رأس الهرم الاجتماعي فهي في طليعة بناة الحضارة والعمران وهي عماد المدنية والابتكار و الإنتاج” ، تلخص هذه الفقرة من خطاب وادان ما تقدم بإيجاز كبير و ألم مرير.
و رغم أن بلدنا ورث استصحابًا مشوَّها لتراتبية حرفية مُرَابِطيَّة غلب عليها آنذاك جانب التخصص على الجانب الطبقي البَحْت، إلا أنها أخذت أبعادا كبيرة وخطيرة فيما بعد أدَّتْ إلى تكريس هذه الطبقية وساعدت على إلتصاق كل فئة اجتماعية بأدوارها في السّلم الوظيفي للمجتمع، تحولت تدريجا بفعل عوامل شتى إلى سلّم عرقي طبقي صِرْف، وازداد الأمر سوء مع بروز القبيلة ككيان تقليدي سياسي محكم التنظيم تشكَّل بواسطة القُربي و النَّسب، والولاء ، والتعصب، وتمدد واتَّسع أفقيا وعموديا بسبب:الولاء والتَّلْمَذة، والفِداء، والغَلَبة، والمكاتبة، و التَّفَاسُخ، والتَّدافع.
و مع بزوغ الدولة “الأمة المتجانسة” بدأت في علاج أهم ظواهر المسألة الاجتماعية بطول نفس ودون مجابهة حاسمة تنطلق في معالجتها من مبدأ المهادنة أحيانا و الاستغلال عند الحاجة.
ولاحقا وأمام التأثر بالمد الخارجي الايديولوجي الماركسي الاسلامي القومي بدأت بالاستقواء بالهرمية الاجتماعية المسيطرة و الضاغطة من أجل الخروج من بعض متاهات الحكم و التدبير السياسي،الذى غدتْ الدولة فيه بين سِنْدَان المنفعة الذي يوجب الاستقواء بالهرمية الاجتماعية، و مطرقة المد الخارجي المتشبث و المفعم بالشرعية الدولية لحقوق الانسان ما أدى الى تنازل الدولة عن جدية المعالجة لصالح هذا الضغط مع ردة فعل ناعمة و مجاملة للنسق الاجتماعي التراتبي.
فعلى الرغم من تني الدولة لخطوات تنفيذية و تشريعية من خلال إشراك بعض الفئات المهمشة التي عانت من حيف تاريخي، في تسيير الشأن العام، وإصدار رُزْمَانَةٍ تنظيميةٍ و تشريعيةٍ حرصت الدولة قبلها دوما على دَسْتَرَة ِ مبدإ المساواة في جميع نصوص ومواثيق الجمهورية بدءًا من تعاميم تعالج أبشع هذه الظواهر الاجتماعية خطورة (العبودية) ومنها :
1) تعميم: 16 مارس 1966 الصادر عن وزير الداخلية والعدل الأسبق محمد الأمين ولد حامَّني، إلى جميع حكام الدوائر ورؤساء الكَانْتُونَات بشأن الرق.
2) تعميم: 05 دجمبر 1969 الصادر عن وزير العدل الأسبق المعلوم ولد برهام إلى الحكام ورؤساء المراكز الإدارية والقضاة، يأمرهم فيه بتحرير أي رقيق يمثل أمامهم في نزاع مع سيده.
3) تعميم: 13 مارس 1979 الصادر عن وزير العدل الأسبق مولاي ولد بوخريص إلى كافة رؤساء المحاكم المتعلق بمشكلة الرق يأمرهم فيه :”بتجميد جميع القضايا التي لها صلة بمسألة الرق لان الدولة لا تسمح بإثارة مثل هذه القضايا في الوقت الحاضر”.
4) تعميم:09 يناير 1981 الصادر عن وزير العدل والتوجيه الإسلامي عبد العزيز ولد احمد يدعو فيه إلى التقيد بقرار اللجنة العسكرية للخلاص الوطني الذي يبين أن ممارسة العبودية في البلاد غير شرعية و يجب أن تنتهي من الآن فصاعدا بكافة أشكالها”.
5) الرسالة الموجهة إلى العلماء في الجمهورية الإسلامية الموريتانية من طرف الأمانة الدائمة للجنة العسكرية و الموقعة من طرف الأمين الدائم للجنة العسكرية النقيب البحري دَحَّانْ ولد محمد محمود يدعو فيها العلماء إلى سد ما اعتبره ثغرة الاسترقاق.
6) ورقة عمل وجهتها اللجنة العسكرية للخلاص الوطني إلى العلماء الموريتانيين من إعداد العلامة المُرَابط محمد سالم ولد عدود تثير هذه الورقة جملة من التساؤلات الفقهية حول العبودية [ الأصل، و الحل] و التي تباينت فيها آراء فقهاء البلد آنذاك.
إلا أن الدولة ككيان وطني يعتمد المواطنة كأساس وحيد للعقد الاجتماعي الذي يربط الدول بمواطنيها، تنبهت مبكرا إلى ضرورة تجاوز مجرد الانطباع الإداري الى إبداء الرغبة في القضاء على ذروة سنام هذه الظواهر (العبودية و الدونية) . قناعة منها آنذاك أن المشكل إنما يكمن في انعدام النصوص القانونية التي تجرم ظاهرة الاستعباد كإحدى أهم الظواهر الاجتماعية، و من ثمَّ اتجهت إلى حتمية إيجاد النصوص التشريعية المجرمة و الرادعة، فكان قرار 05 يوليو 1980 الحكومي الصادر عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني حينها ثوريا حين ألغى الرق في الجمهورية الإسلامية الموريتانية ، والذي تجسد تشريعيا بـ: الأمر القانوني رقم:234\81 بتاريخ: 09 نوفمبر 1981 المتضمن إلغاء الرق.
ثم تتابعت النصوص التشريعية كحبات عِقْدٍ مقطوع، فبعد إعداد الإستراتيجية الوطنية لمحاربة مخلفات الرق صدر القانون رقم:048\2007 المتعلق بتجريم العبودية ،وبعد التعديل الدستوري المتمخض عن حوار 2012 و الذي اعتبر ممارسة الاستعباد بائدة وضد الانسانية غير قابلة للتقادم جاء القانون رقم:011\2013 بتاريخ:23 يناير 2013 القاضي بمعاقبة جرائم الاسترقاق والتعذيب بوصفهما جرائم ضد الإنسانية لا تتقادم وهو القانون الذي ألغي بالقانون رقم:031/2015 المجرم للعبودية النافذ حاليا.
والحق يُقَال إنه بعد طول النُّجْعَة في هذه المعالجة تبين أن المشكل أعمق من ظاهرة لا يمكن إنهاؤها أو قمع مخلفاتها بمجرد نصوص تولد ميتة خِلْوًا من أي إرادة.
إن عمق المشكل ينطلق من تشعب مضامينه المتعلقة أساسا بالدونية ورواسب الظلم الشنيع المبثوثة في موروثنا الثقافي، ومن هنا جاء خطاب وادان حازًّا في مفصلها “فقد آن الاوان أن نطهر موروثنا الثقافي من رواسب ذلك الظلم الشنيع وأن نتخلص نهائيا من تلك الاحكام المسبقة والصور النمطية التي تناقض الحقيقة وتصادم قواعد الشرع والقانون وتضعف اللحمة الاجتماعية والوحدة الوطنية وتعيق تطور العقليات وفق ما تقتضيه مفاهيم الدولة و القانون والمواطنة”. فيقينا لا يكفي وضع ضمادات قانونية[قانون رقم 2018 – 023 بتاريخ 21 يونيو 2018 يتعلق بتجريم التمييز] لمعالجة ظاهرة التمييز أو الكراهية ، بل لا بد من تطوير أدوات الضغط الاجتماعي الأخرى غير التشريعية و التنظمية، وعلى رأسها إرادة الدولة القاهرة التي تجسدت بهدُوءٍ “كغَمزَةِ العَاقِل” من أجل تجاوز رواسب الظلم و تطهير الخطاب والمسلكيات من تلك الاحكام المسبقة والصور النمطية الزائفة، و الوقوف في وجه النَّفَس القبلي المتصاعد. إيذانا أن الدولة في اطار مصالحة مع الذات و مصارحة للمواطنين تريد “التأكيد على أنها ستظل حامية للوحدة الوطنية والكرامة وحرية ومساواة جميع المواطنين بقوة القانون وأيا تكن التكلفة، كما أنها لن ترتب حقا أو واجبا على أي انتماء إلا الانتماء الوطني”، و بهذا الخطاب الصريح المتصالح تقضي على جميع الانتماءات و العَلاَئِق الاخرى ليبقى الانتماء للوطن هو المحدد الأوحد للمواطنة وما يترتب عليها.
ومن هنا كانت لخطاب وَادَانْ أسبقية متجسدة في نقطتين: الاولى: كونه نجح في التشخيص،و الثانية لأنه وفق في وضع الحل، و الحل عدم ترتيب أي إلتزام:حق أو واجب إلا على الانتماء للوطن.
فيبقى المجال مفتوحا أمام الفاعلين الوطنيين في هذه اللحظة التاريخية الفارقة لجعل خطاب وادان.. نقطةُ البِدَايةِ في مُنْحَنَى نهَايَةِ الحيف التاريخي الناتج عن : القبلية – الشرائحية – الطبقية – التفاوت. و نقطة البداية الوحيدة هذه هي الانتماء للوطن ولا شيء غير الوطن.
انواكشوط:16 دجمبر 2012
الدكتور:هارون ولد عَمَّار ولد إديقبي