لا تظلموا وزير الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي / محمد الأمين ولد الفاضل
في بداية هذا العام طالعتُ خبرا فريدا من نوعه لم يجد ما يستحق من الاهتمام الإعلامي، ويتعلق هذا الخبر بمعالي وزير الشؤون الإسلاميةالقاضي الداه ولد سيدي ولد أعمر طالب الذي أعاد إلى خزينة الدولة جزءا من مبلغ مالي كان مخصصا لتغطية مصاريفه خلال مشاركته في اجتماع للمجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
إن مثل هذا التصرف النادر يستوجب من كل منصف أن يحسن الظن بهذا الوزير الذي يتعامل مع المال العام بطريقة غير مسبوقة، لم نعهدها عند الوزراء ولا عند كبار الموظفين ولا صغارهم، على الأقل خلال العقود الأخيرة.
هذا الوزير الذي تصرف بهذا الأسلوب غير المعهود في بلادنا تعرض خلال الأيام الماضية لحملة ظالمة تتهمه بالفساد. هذه الحملة احتلت مساحة واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، وجاءت كردة فعل على تقرير نشرته وكالة الأخبار المستقلة.
ومع أنه لا يمكن التشكيك في مهنية موقع الأخبار، والذي يعد هو الموقع الموريتاني الأكثر كشفا للفساد، والأكثر مصداقية، إلا أن ذلك لن يمنعنا من القول بأن الموقع لم يكن مهنيا في تقريره المتعلق بخطة الوزارة لمكافحة كورونا. لقد اختار الموقع عنوانا للتقرير لا يوحي بأن التقرير يتعلق بخطة لم تنفذ، بل ربما أوحى للكثيرين ـ وأنا كنتُ أحدهم ـ بأن الأمر يتعلق بحملة تم تنفيذها بالفعل. أما بالنسبة للقراء الذين يكتفون عادة بقراءة العناوين وهم كثر، فقد تأكدوا من خلال العنوان بأن المبالغ قد أنفقت بالفعل. لقد غابت كلمة الخطة عن العنوان، واختار الموقع أن يعنون تقريره ب” تفاصيل نصف مليار لحملة الشؤون الإسلامية لمكافحة كورونا” بدلا من “تفاصيل خطة بنصف مليار لحملة الشؤون الإسلامية لمكافحة كورونا”.
ثم إن هذا التقرير الطويل، والذي احتوى على أربعة عناوين فرعية لم يذكر فيه ـ ولو بكلمة واحدة ـ بأن الخطة لم تنفذ حتى الآن، وكان من الغريب أن لا يذكر ذلك عندما ختم الموقع تقريره بتوضيحات أدلى بها للموقع مصدر رسمي في الوزارة.
تلقف نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي هذا التقرير بلهفة، وكان أغلبهم يتحدث عن نصف مليار أوقية تم إنفاقها من طرف الوزارة على حملة لمحاربة كورونا، ومن هنا بدأت حملة واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن فساد الوزارة، وكانت الوزارة قد تعرضت من قبل ذلك لحملة أخرى تتعلق بالأكفان التي تم منحها لجمعية تتولى غسل الموتى.
وبالعودة إلى حملة نصف المليار فإنه من المهم تقديم الملاحظات التالية :
1 ـ هذا التقرير الذي جاء كرد على طلب من وزارة الاقتصاد تم تقديمه للوزارة في يوم 22 مارس. أي أنه قُدِّم بعد اكتشاف عدة إصابات بالمرض في بلدنا، وفي توقيت يمكن اعتباره يمثل توقيت الذروة من حيث الخوف من هذه الجائحة التي أربكت كل دول العالم.
2 ـ هذا التقرير تم تقديمه لوزارة الاقتصاد، والتي يفترض بها أنها ستقدمه للجهات المانحة، وبالتالي ليست هناك أي مصلحة لموريتانيا أن يكون هذا التقرير “تقريرا تقشفيا”، خاصة وأن المساعدات الدولية المقدمة للتصدي لكورونا لا تتعلق بقروض، وإنما هي في الأغلب هبات ومنح.
3 ـ لا يمكن القول بأن نصف مليار أوقية قديمة يُعَدُّ بالمبلغ الضخم جدا، إذا ما كان الأمر يتعلق بحملة توعية ضد وباء خطير، وبمخصصات وزارة بحجم وزارة الشؤون الإسلامية.
إن عدد المساجد في موريتانيا يزيد على 10 آلاف مسجد، وإذا ما افترضنا أن الوزارة تجاهلت المحاظر ووزعت المبلغ كاملا (444.720.000 أوقية قديمة) على المساجد، فلن يزيد نصيب المسجد على 44 ألف أوقية قديمة..فهل يمكن اعتبار هذا المبلغ مبالغا فيه؟
في اعتقادي بأن المساجد كان يمكن أن تلعب الدور الأكبر في حملة التصدي لكورونا، وهذا ما جعلني أطالب في عدد من مقالاتي الخاصة بكورونا بتلاوة القرآن بنية رفع البلاء عبر مآذن المساجد وعلى عموم التراب الوطني، وبضرورة الاستفادة من انتشار المساجد في بلادنا في حملات التوعية ضد كورونا، وقد طالبت بإعداد مادة صوتية فائقة الجودة من حيث المضمون، تتضمن وعظا وإرشادات صحية للوقاية من الفيروس على أن يتم توزيعها في أقراص على المساجد ليبثها كل مسجد عبر مكبر صوته بشكل متكرر حتى يسمعها الأهالي من دون الحاجة إلى تجمهر. ولو أن خطة الوزارة تم اعتمادها، ولو أن تلك المبالغ أنفقت ـ بشكل شفاف ـ على حملة خاصة بالمساجد لكانت حملتنا في موريتانيا ضد كورونا أكثر فعالية وأكثر تأثيرا.
إنه ليس من المنصف اتهام وزير بالفساد بسبب خطة أعدها قطاعه، وتضمنت مبلغا في حدود المعقول كان موجها بالأساس إلى الجهات المانحة لا للحصول على قرض، وإنما للحصول على هبة. كان يمكننا أن نتحدث عن فساد لو أن الوزارة حصلت على المبلغ المذكور وأنفقته بطريقة غير شفافة.
المؤسف في الأمر أننا في مواقع التواصل الاجتماعي انشغلنا لأيام بفساد لم يقع، عن فساد وقع بالفعل، يتعلق بمئات المليارات من الأوقية التي يتم الحديث عنها من خلال ما يتسرب من تحقيقات اللجنة البرلمانية. لا أدري إن كان لهذا صلة بذاك، ولا أدري إن كان سيترتب على تقدم أعمال لجنة التحقيق البرلمانية، ومحاولة بسط ميناء نواكشوط المستقل سيطرته على أراضيه وأملاكه، لا أدري إن كان سيترتب على ذلك المزيد من الانشغال والإلهاء بفساد افتراضي، أو بفساد “متناهي الصغر” إن جاز استخدام هذه العبارة. لقد تذكرت الآن كيف انشغل المدونون خلال أيام طويلة بقصة “المغسل الذي يباع ب8000 أوقية”، وهي قصة رواها نائب يقف ضد توسيع ملفات لجنة التحقيق البرلمانية، ولم نجد لها دليلا، ومع ذلك فقد انشغل بها المدونون لأيام طويلة، وجعلوا منها دليلا قويا على فساد النظام الحالي.
المؤسف أكثر أن الوزير المتضرر حاليا من هجوم نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، هو نفسه الوزير الذي كان قد بهرنا منذ أشهر قليلة بتصرف غير معهود يتعلق بإعادة مبلغ مالي لم ينفق خلال رحلة عمل.
وتبقى كلمة أخيرة أوجهها إلى نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي: لا تنشغلوا بالفساد الافتراضي أو بالفساد المتناهي الصغر عن الفساد الكبير، فأنتم إن فعلتم ذلك، إنما تمارسون أيضا نوعا من الفساد، ولتعلموا بأنه كلما تقدم عمل لجنة التحقيق البرلمانية فإن محاولات الإلهاء ستكون أقوى وأشد.
حفظ الله موريتانيا…