فقه الصوم عند الغزالي / محمد محمود ولد عبد القادر
سم الكتاب يوحي بشيئ جديد داخل الكتاب, ويشير إلى فترة رأى فيها صاحب الإحياء أن العلوم الشرعية قد أندرست , أو ماتت و أن هذا الكتاب جاء لإحيائها وبما أننا على أبواب رمضان , سنرى كيف تناول رحمه الله الصوم , ولما ذا قدم الصوم على الحج , والزكاة على الصوم , وكيف ربط بين الصوم والصبر , وبين الصوم والنصر , وكيف نظر إلى فضل الصوم ,وعالج بعض العادات السيئة مثل النوم في نهار رمضان , وهل يعتبر الصوم عملا من الأعمال أم لا ؟ وكيف فرق بين الصوم عند الصوفية حيث سماهم علماء الآخرة و بين الفقهاء حيث سماهم علماء الظاهر.
وهذا ماسنركز عليه من كلام الغزالي تاركين الأحكام الفقهية التي تختلف من مذهب إلى مذهب ومن شخض لآخر .
ـ الترتيب والمنهجية
جرى حجة الإسلام الغزالي كغيره من أصحاب المذاهب المتبعة على تقديم الزكاة على الصوم , وهي المنهجية التي اتبعها أغلب الفقهاء والمحدثين وقد اعتمدوا فيها على الترتيب الوارد في كثير من الأحاديث حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة على الصوم , والصوم على الحج , ومن أشهر هذه الأحاديث حديث ابن عمر رضي الله عنهما
ـ وهو قوله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت .( متفق عليه )
والترتيب المذكور في هذا الحديث هو الذي اتبعه أغلب المؤلفين من الفقهاء والمحدثين فقدموا الصلاة على الزكاة والزكاة على الصوم , والصوم على الحج .
وبما أن للحديث روايات مختلفة في بعضها تقديم الحج على الصوم , وبعضها يقدم الصوم على الحج ظهرهذا الإختلاف في كتب أمهات الحديث من ناحية الترتيب
ومن تلك الروايات ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم («بني الإسلام على خمسة، على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج»، فقال رجل: الحج، وصيام رمضان، قال: «لا، صيام رمضان، والحج» هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فابن عمر رضي الله عنه لما استدرك عليه الرجل بقوله ( الحج وصيام رمضان ) قال لا ( صوم رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
مع أن ابن عمر رضي الله عنه ثبت عنه في الصحيح تقديم الحج على الصوم , ومن الإحتمالات التي ذكرها العلماء هنا أنه سمع الحديث مرتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وفي أثناء روايته لتقديم الصيام على الحج , وسؤال الرجل له ذهل عن الرواية الأخرى , أو الرواية الأخرى رواها عنه الراوي بالمعنى
وبسبب اختلاف هذه الروايات اختلفت المنهجية المتعبة في الكتب حيث قدم بعضها الصوم على الحج وبعضها الحج على الصوم .
ـ فقد قدم الإمام مسلم في صحيحه الصوم على الحج عملا بالرواية المتفق عليها
ـ وقدم البخاري الحج على الصوم
ومن أغرب الكتب ترتيبا سنن أبي داوود حيث رتب كتابه ترتيبا لم يراعي فيه ولا واحدة من الروايتين المختلفتين ( فقد ذكر الصلاة , ثم الزكاة , ثم اللقطة , ثم المناسك , ثم الطلاق , ثم الصوم
والصحيح ماذهب إليه الجمهور , وهو تقديم الصوم على الحج , وذلك راجع للأمور التالية :
ـ أن الصوم فرض قبل الحج فالصوم فرض في السنة الثانية للهجرة , والحج فرض في السنة السادسة
ـ الصوم يجب في كل السنة ويجب على الجميع والحج الصحيح فيه أنه يمكن تأخيره لآخر العمر
قال النووي رحمة الله عليه ( قدموا الصوم على الحج لأنه جاء في إحدى الرواتيتين , ولأنه أعم وجوبا من الحج , فإنه يجب على كثير ممن لاحج عليه , ويجب أيضا على الفور ويتكرر ) ( المجموع 1/124
ـ ولأن الصوم مفرد و الحج مركب والمفرد مقدم على المركب , في الوجود فناسب في الذكر ليتطابقا ( إتحاف السادى المتقين ج 4 ص 187 )
ـ تقديم الزكاة على الصوم
ـ والغزالي هنا رحمه الله أتبع باب الزكاة بباب الصوم , وذلك تأسيا بالحديث المذكور . وتماشيا مع مذهب الجمهور في الترتيب .
وبعض العلماء اختار منهجية أخرى في الترتيب حيث جعل الصوم بعد الصلاة مباشرة , وممن اختار هذه المنهجية , الإمام محمد ابن الحسن الشيباني في كتابه , الجامع الكبير , حيث بدأ بالصلاة , وثنى بالصوم , وثلث بالزكاة .
وقد استدل الإمام محمد ومن سار على منهجه في هذا الترتيب بأمور منها
ـ أن الصوم والصلاة يجتمعان في أن كل واحدة منهما عبادة بدنية , بخلاف الزكاة فهي عبادة مالية , وعليه يكون ترتيب العبادات المالية أحسن , وأسهل
ـ وبالحديث الذي أخرجه الترمذي , وصححه الحاكم , وابن حبان , من طريق سليم ابن عامر قال سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول : اتقوا الله وصلوا خمسكم , وصوموا شهركم , وأدوا زكاة أموالكم ,وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم .
و مسألة الترتيب , والتقديم , والتأخير لبعض الأبواب هي من الأمور الإجتهادية التي لا تبني عليها أحكام .
ـ العلاقة بين الصوم و التوحيد
قال الغزالي في مقدمة كتاب الصوم ( ودفع عنهم كيد الشيطان وفنه , ورد أمله وخيب ظنه إذ جعل الصوم حصنا لأوليائه , وجنة )
الصوم يتشرك مع التوحيد في أن كلا منهما عمل قلبي باطني ,
ويشتركان كذلك فيما أشار له الغزالي هنا , وهو أن الصوم حصن لأولياء الله من الشيطان , والولاية تنقسم إلى قسمين , عامة , وخاصة , فا العامة لجميع المؤمنين , كما قال تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وولاية خاصة وهم المتقون كماقال تعالى (وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)
وهذا التحصين الواقع بالصوم , هو تحصين من الأعداء , ومن العذاب , ونفس التحصين يشترك فيه التوحيد مع الصوم فقد جاء في بعض الآثار لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن عذابي .
وقد رواه بعضهم حديثا مرفوعا , لكن ضعفه العراقي وغيره , وكثرة الأحاديث في فضل لا إله إلا الله تشهد له , وتجعله حديثا في مصاف الأحاديث التي يحتج بها في مثل هذا الباب .
ـ معنى الصبر عند الغزالي
الصبر أمره عظيم , وقدره جليل عند الله عزوجل , وقد اهتم به العلماء قديما , وعرفوه بعدة تعريفات , من أهمها
ـ هو التباعد عن المخالفة والتجزع عند غصص البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة
(ـ دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين ـ ج1 ص 145)
ـ الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 17)
ـ والصبر المرغب فيه هو الصبر على طاعة الله , ومجاهدة النفس على مخالفة الهوى , وأما صبر الأجسام على تحمل المشاق فلا فرق فيه بين الآدمي وغيره قال ابن المقفع (الصبر صبران: فاللئام أصبر أجساما، والكرام أصبر نفوسا. وليس الصبر الممدوح صاحبه أن يكون الرجل قوي الجسد على الكد والعمل؛ لأن هذا من صفات الحمير، ولكن أن يكون للنفس غلوبا، وللأمور متحملا، ولجأشه عند الحفاظ مرتبطا ( أدب الدنيا والدين ص 278 )
ـ وهو على ثلاثة أقسام , وأفضلها الصبر عن المعاصي (قال أبو حاتم رضي الله عنه الصبر على ضروب ثلاثة فالصبر عن المعاصي والصبر على الطاعات والصبر عند شدائد المصيبات فأفضلها الصبر عن المعاصي
فالعاقل يدبر أحواله بالتثبت عند الأحوال الثلاثة التي ذكرناها بلزوم الصبر على المراتب التي وصفناها قبل حتى يرتقي بها إلى درجة الرضا عن الله جل وعلا في حال العسر واليسر معا أسأل الله الوصول إلى تلك الدرجة بمنه .( روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص 162)
والصوم قد اشتمل على أنواع الصبر كلها , فلذلك رمضان يسمى شهر الصبر , والغزالي رحمه الله تعالى افتتح كتاب الصوم بقوله ( الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم الصوم نصف الصبر , وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم الصبر نصف الإيمان .
وهو هنا رحمه الله انطلق بأنه لما كان الصبر نصف الإيمان , كما جاء في الأحاديث فإن الصوم ربعه , لأنه نصف الصبر , وهي معادلة واضحة .
وحديث الصوم نصف الصبر أخرجه الترمذي في سننه , في موضع غير موضعه في الظاهر , فالباحث عنه في الترمذي سيخيل إليه أنه في باب الصوم , والترمذي رحمه الله تعالى إنما أخرجه في آخر الكتاب في كتاب الدعوات في (باب ماجاء في عقد التسبيح باليد)
عن رجل من بني سليم قال عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده : التسبيح نصف الإيمان , والحمد لله يملؤه , والتكبير يملؤ مابين السماء والأرض , والصوم نصف الصبر , والطهور نصف الإيمان . ( الترمذي الحديث رقم 3519 )
واختلف العلماء في معنى قوله الصوم نصف الصبر , فقيل الصبر ينقسم إلى قسمين , صبر على الطاعة وهو متمثل في الصوم , فيبقى نصف الصبر الآخر وهو الصبر عن المعصية أو على المصيبة , وهو يمثل نصف الصبر الآخر .
ـ أو الصبر المذكور نصفه يتمثل في شهوتي البطن والفرج والصوم جاء للإمساك عنهما , والنصف الآخر متعلق ببقية الجوارح , فعلى المكلف مراعات ذلك ي حتى يفوز بأجر الصابرين (والصوم نصف الصبر وهو الصبر على الطاعة فبقي النصف الآخر عن المعصية أو المصيبة
أو الصوم صبر عن الحلق والفرج فبقي نصفه الآخر من الصبر عن سائر الأعضاء) ( تحفة الأحوذي ج 9 ص 352 )
ـ وقيل جميع العبادات فعل , وكف , والصوم معين على الكف , لأنه شرع لقمع الشهوات , وبذلك فهو يمثل نصف الصبر ( إنما كان الصوم نصف الصبر لأن جميع العبادات فعل وكف , والصوم يقمع الشهوة فيسهل الكف وهو شرط الصبر , فهما صبران صبر عن أشياء وصبر على أشياء , والصوم معين على أحدهما فهو نصف الصبر .(إتحاف السادة المتقين ج4 ص 188 )
ـ والغزالي رحمه الله في كتاب الصوم اكتفى بقوله الصوم نصف الصبر ولم يتعرض لمفهوم الصبر في هذا المحل , وتناوله بعد ذلك في ربع المنجيات , وذلك حين أراد أن يقرر أن الصبر نصف الإيمان , حيث ذكر أن الإنسان يتنازعه باعث الدين , وباعث الهوى والكسل , والمطلوب منه هو تغليب باعث الدين ولا يستطيع ذلك إلا بالصبر وبسبب ذلك صار الصبر نصف الإيمان , لأن نصفه الآخر يتمثل في اليقين (والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين إذ اليقين يعرفه أن المعصية ضارة والطاعة نافعة ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل فيكون الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار.) ( إحياء علوم الدين ج4 ص 66 )
فضل الصوم عند الغزالي
الغزالي كغيره من العلماء افتتح كتاب الصوم بذكر مايدل على فضل هذه الشعيرة من الآيات والأحاديث النبوية , وكعادته في كل الأبواب فهو لايتحرى الحديث الصحيح من الضعيف , لم تتغير هذه العادة في باب الصوم فقد ذكر بعض الأحاديث المتفق عليها , كماذكر بعض الأحاديث الضعيفة كذلك .
ـ الآيات
ا ـ قال الغزالي : قال وكيع في قول الله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ) هي أيام الصيام .
هذه الآية ساقها الغزالي للدلالة على فضل الصيام , ووجه الدلالة من هذه الآية في قوله تعالى ( أسلفتم في الأيام الخالية ) أي قدمتم لأن الإسلاف في اللغة يأتي بمعنى التقديم , والخالية تعني الماضية ومنه قوله تعالى (قد خلت القرون من قبلكم ) وقوله ( تلك أمة قد خلت ) أي كلوا واشربوا بسبب أعمالكم الصالحة التي قدمتكم في الأيام الماضية , وهي أيام الدنيا .
ـ وما نقله الغزالي عن وكيع وهو قول مجاهد أن المقصود به أيام الصيام فكأنهما فهما أن المؤمن لما أطاع الله عز وجل في الدنيا بترك الطعام والشراب وذلك بصومه طاعة لله عز وجل أثابه الله بما منع منه نفسه في الدنيا وهو الطعام والشراب الهنيئ الذي لا كدر فيه , ولا تنغيص , لأن الجزاء من جنس العمل .
ـ وهذه الآية من الآيات التي يفهم منها أن الجزاء يكون بسبب العمل ولذلك قال الرازي في تفسيره ( بما أسلفتم يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم، وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب . ( تفسير الرازي ج30 ص 630 )
والصحيح أن العمل لايوجب الثواب , بل الثواب يختص الله به من يشاء من عباده كما جاء في الحديث الصحيح (اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخله عمله الجنة”. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل . (صحيح البخاري الحديث رقم ( 5673)
ب ـ قال الغزالي : (وقيل في قوله تعالى {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} قيل كان عملهم الصيام لأنه قال {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغا ويجازف جزافا فلا يدخل تحت وهم وتقدير .
ووجه الإستدلال عنده من هذه الأية على فضيلة الصوم ,هو أنه لماكان الصيام نصف الصبر , والصبر جزاءه غير محسوب , وغبر مقدر فلا يعلمه إلا الله ,دل أنه هو المقصود بقول الله تعالى (فلاتعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) وما دامت النفس لا تعلمه فهو داخل في الحساب الإلهي الذي لايعلمه إلا الله.
وذلك هو جزاء الصابرين ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ولذلك قال(والصوم نصف الصبر فقد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب ).
ـ لماذا جعل الله الصوم نصف الصبر؟
قطعا يوجد سر في ذلك , كما يوجد سر في كون الطهور نصف الإيمان , وهي من الأسرار التي يصعب على الإنسان إدراكها (وربما عسر الوقوف على سر كونه نصف الصبر أكثر من عسر الوقوف على سر كون الطهور شطر الإيمان، والله أعلم ( جامع العلوم والحكم ص ج2 ص 26 )
ـ والناظر في سياق هذه الآية يرى بأنها جاءت فيما أعده الله لعباده الصالحين , الذين اتصفوا بقيام الله , وبالإنفاق في سبيل الله كما قال تعالى (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) والمتتبع للتفاسير يرى بأنهم شبه متفقين ’ على أن هذا الجزاء يستحقه صاحب الأعمال الصالحة عموما , وصاحب قيام الليل خصوصا لأن التجافي عن المضاجع من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم
يبيت يجافي جنبه عن فراشه … إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
ولم يذكر أي من المفسرين أنها خاصة بالصوم , بل الصوم واحد من الأعمال التي إذا أتقنها صاحبها استحق هذا الجزاء , وهي كما جاءت في الحديث ( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا , وتقيم الصلاة , وتؤتي الزكاة , وتصوم رمضان , وتحج البيت .
وعلى هذا يكون القول بخصوصيتها بالصوم لم يسبق إليه الغزالي رحمه الله تعالى , وزيادة على استنباطه ومقارنته بين الآيتين , يمكن أن يقال إن الصوم من الأعمال الخفية التي لا يطلع عليها إلا الله , وأن بعض السلف قد فسر هذه الآية بالأعمال الخفية , فقد صح عن الحسن البصري أنه قال : أخفى قوم أعمالهم فأخفى الله لهم مالم تر عين ولم يخطر على قلب بشر . (ابن كثير ج6 ص 365) وعليه يكون الصوم داخلا دخولا مباشرا فيها كقيام الليل .
ـ الأحاديث
ا ـ ذكر الغزالي رحمه الله عدة أحاديث في فضل الصيام , بعضها صحيح , وبعضها ضعيف جدا وبعضها غير موجود أصلا , وهذه الأحاديث , أهمها , وأجمعها , حديث أبي هريرة المتفق عليه , والذي جاء بعدة طرق , وقد ذكره الغزالي مفرقا , وسبب ذلك أنه يدل على معان كثيرة , كل ةاحدة منها كافية للدلالة على فضيلة الصوم .
والحديث هو : عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي فالصيام لي وأنا أجزي به كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»
ـ هذا الحديث من الأحاديث المتفق عليها ,وقد جاء بعدة روايات , وعدة طرق يختلف بعضها عن بعض , ويزيد بعضها على بعض , واختلاف الروايات وزيادتها في الحديث تزيد معنى لاغنى عنه فيه فهم الحديث .
ـ ففي رواية ابن ماجه لهذا الحديث في سننه زاد بعد قوله (إلى سبع مائة ضعف إلى ما شاء الله،)( ابن ماجه الحديث رقم 1638 )
ـ معنى تضعيف الحسنات الوارد في هذا الحديث
يفهم من هذا الحديث أن الحسنات تتضعاف , وتضاعفها يدور بين العشرة كحد أدنى , والسبع مائة كحد أعلى , كما جاء في هذا الحديث (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)
وقد اختلف العلماء قديما في السبع مائة ضعف هل هي غاية التضعيف أم أن تضعيف الحسنات قد يزيد على ذلك , وسبب خلافهم هو قول الله تعالى ( والله يضاعف لمن يشاء ) ففسرها بعضهم أن المقصود بها يضاعف لمن يشاء إلى سبع مائة ضعف فقط ( فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء بأن يجعلها سبع مائة ضعف وهو الذي قاله البيضاوي تبعا لغيره ) (إرشاد الساري ج1 ص 128 )
فالمطرد هو التضعيف إلى عشرة و أما التضعيف إلى سبع مائة فقيل خاص بالإنفاق في سبيل الله (وفي مضاعفة ذلك في غير ذلك من الطاعات قولان: أحدهما: أن الحسنة في غير ذلك بعشرة أمثالها , قاله ابن زيد. والثاني: يجوز مضاعفتها بسبعمائة ضعف , قاله الضحاك. ( النكت والعيون ج1 ص 336)
والصحيح هو القول بزيادة التصعيف إلى أكثر من سبع مائة وهو الواضح من قول الله تعالى ( والله يضاعف لمن يشاء )
قال الحافظ في الفتح (وحكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية فزعم أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ورد عليه بقوله تعالى والله يضاعف لمن يشاء والآية محتملة للأمرين فيحتمل أن يكون المراد أنه يضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلها سبعمائة ويحتمل أنه يضاعف السبع مائة بأن يزيد عليها والمصرح بالرد عليه حديث بن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق ولفظه كتب الله له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ) ( فتح الباري ج1 ص 100 )
وماقاله الحافظ هو الصحيح لوجود الأحاديث الكثيرة الدالة عليه , والتي منها رواية ابن ماجه لهذا الحديث , والتي زاد فيها بعد قوله إلى سبع مائة ضعف ـ إلى ماشاء الله .
وكذلك يدل عليه الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه الذهبي عن ابن عباس مرفوعا (من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبع مائة حسنة، كل حسنة مثل حسنات الحرم» قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: «بكل حسنة مائة ألف حسنة» ( المستدرك الحديث رقم 1692 )
ـ الأعمال التي تتضاعف الحسنات فيها
ـ (الجهاد في سبيل الله , والعمل في الأيام العشر )
فقوله إلى سبع مائة ضعف , يقصد بها الجهاد في سبيل الله كماهو الواضح من نص القرآن , قال ابن العربي في العارضة ( في قوله «إلى سبعمائة ضعف» يعني بظاهره الجهاد في سبيل الله ففيه ينتهي التضعيف إلى سبعمائة من العدد بنص القرآن، وقد جاء في الحديث الصحيح أن «العمل الصالح في أيام العشر أحب إلى الله من الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» قال فهذان عملان . ( عارضة الأحوذي ج )
ـ النفقة في الحج : فقد أخرج أحمد في المسند (النفقة فى الحج كالنفقة فى سبيل الله بسبعمائة ضعف. (الفتح الرباني ج11 ص 11
ـ كلمة حق عند سلطان جائر : فقد أخرج أبوداوود و الترمذي وابن ماجه وغيرهم أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر
ـ ذكر الله : أخرج الترمذي في السنن , والحاكم في المستدرك مرفوعا : ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى، قال ذكر الله عز وجل
ـ هل الصوم عمل أم لا ؟
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ( إلا الصيام ) اختلف العلماء في الإستثناء هنا هل هو من التضعيف , وهو الظاهر من كلام الغزالي, ولذلك اختار رواية (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام ) وهي الرواية المتفق عليها .
أو الإستثناء من العمل , وهو الواضح من رواية مسلم في صحيحه , عن أبي صالح عن أبي هريرة , (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي ) (صحيح مسلم .
وسبب الخلاف أصلا هل الصوم عمل أم لا ؟
فبعض العلماء يرى بأن الصوم ليس بعمل لأن حقيقته , أنه ترك أشياء لله عز وجل , يثيب العبد عليها كما يثيبه , على الأ عمال مثل الصلاة , والزكاة .
واستدل أصحاب هذا القول أنه لو كان عملا
لفعله النبي صلى الله عليه وسلم في أيام عشر ذي الحجة التي قال فيها (مامن أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)
وصح عن عائشة رضي عنها أنها قالت مارأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط (صحيح مسلم )
والذين يرون أن الصوم عمل أجابوا عن هذا الحديث بعدة أجوبة
ـ منها أنه معارض بالحديث الذي أخرجه أبو داوود في سننه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم تسع ذي الحجة ( أبو داوود 2437 )
ـ والمثبت مقدم على النافي
ـ وأن عائشة رضي عنها روت مارأت هي وما عرفت .
والطرف الآخر الذي يثبت أن الصوم ليس بعمل , يثبت حديث عائشة رضي الله عنها , ويقدمه على غيره , ويقول كان النبي صلى الله عليه وسلم لايصوم في العشر مخافة أن يشغله الصوم عن ما هو أفضل منه مثلا الصلاة , والذكر , وقراءة القرآن .
ويقولون أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام … ) أن (إلا) هنا ليست بمعنى الإستثناء وإنماهي بمعنى لكن , وأن هذا الإستعمال قد أتى في القرآن.
(إلا الصيام ” فإنه لي ليس على الاستثناء ولكنه بمعنى (ولكن الصيام هو لي) , وأنا أجزي به ; لأن ” إلا ” قد تكون في موضع لكن , ويكون معناها بخلاف معنى إلا في موضع الاستثناء؛ وقد جاء كتاب الله عز وجل بذلك قال الله تبارك وتعالى {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر} [الغاشية: 22] . فلم يكن ذلك على الاستثناء , ولكنه في موضع , ولكن {من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر} [الغاشية: 23] و ” إلا ” التي [ص:423] هي استثناء كقوله: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [العصر: 1] إلى آخر السورة , والعلامة التي يعلم بها اختلاف هذين المعنيين أنه إذا كان بعد المذكور بإلا خبر فهو بمعنى لكن قال الله عز وجل: {إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر} [الغاشية: 23] وما لم يكن فيه خبر فهو استثناء كما قد تلونا في والعصر( شرح مشكل الآثار ج7 ص 421 )
ـ السر في إضافة الصوم إلى الله عز وجل (عند الغزالي)
قوله صلى الله عليه وسلم ( إلا الصيام فإنه لي وأنا اجزي به ) اختلف العلماء في سر الإضافة لله عزوجل مع أن كل العبادات له , لأنه هو الذي يجازي عليها .
ـ فقيل سبب تخصيص الصوم دون غيره , أن الصوم عبادة قلبية محضة لايدخلها الرياء , ولايطلع عليها غير الله عز وجل .
وهذا هو الذي قاله أبوعبيدة في كتابه غريب الحديث (الصوم لي، وأنا أجزي به” [قال] وقد علمنا أن أعمال البر كلها له وهو يجزي بها، فنرى – والله أعلم- أنه إنما خص الصوم بأن يكون هو [- سبحانه-] الذي يتولى جزاءه؛ لأن الصوم ليس يظهر من ابن آدم بلسانٍ ولا فعل، فتكتبه الحفظةُ إنما هو نيةٌ في القلب، وإمساكٌ عن حركة المطعم والمشرب [والنكاح] يقول [- عز وجل-]: فأنا أتولى جزاءه على ما أُحب من التضعيف، وليس على كتابٍ كتب له. ومما يُبين ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم-: “ليس في الصوم رياءٌ”. حدثنا “أبو عبيدٍ” قال: حدثنيه “شبابةُ” عن “ليثٍ” عن “عُقيلٍ” عن “ابن شهابٍ” رفعه.
وذلك أن الأعمال كلها لا تكون إلا بالحركات إلا الصوم خاصةً، فإنما هو بالنية التي قد خفيت على الناس، فإذا نواها، فكيف يكون هنا رياء؟ هذا عندي وجه الحديث- والله أعلم.( غريب الحديث ج3 ص 330 )
وقال الحافظ في الفتح الصوم لايدخله الرياء الفعلي لأن محله القلب , لكن يدخله الرياء القولي بقول الإنسان أناصائم (قلت معنى النفي في قوله لا رياء في الصوم أنه لا يدخله الرياء بفعله وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار بخلاف بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد فعلها. ( فتح الباري ج4 ص 107 )
ـ وقيل الإضافة هنا إضافة تشريف , وتعظيم كما يقال بيت الله , وإن كانت البيوت كلها لله , وهذا هو الواضح من كلام ابن المنير , حيث يقول ( التخصيص في موضع التعميم , في مثل هذا السياق لايفهم منه إلا التعظيم والتشريف .
وعلق عليه الشيخ شبير أحمد العثماني , في كتابه فتح الملهم في شرح صحيح مسلم بقوله ( قلت : وهذا هو الراجح عندي فقول الله تعالى (الصوم لي ) تنويه بشأن الصوم والصائم , وحاصله أن الصائم إنما يترك معظم , مألوفاته الطبيعية , والرغبات النفسية , لمحض ابتغاء وجهي إلى زمان يعتد به ,يدل عليه قوله في الروايات الأخرى يدع طعامه , وشرابه , وشهوته لأجلي , فهذه الجملة كأنها تفسير لقوله الصوم لي , وفيه تسلية عظيمة للصائمين , المتجرعين كأس الحب الإلهي الطارحين أكبر مستلذاتهم , في جنب محبوبهم الحقيقي . ( فتح الملهم ج5 ص 286 )
ـ والغزالي رحمه الله تعالى رحمه الله تعلى يرى بأن سبب الإضافة إلى الله تعالى راجعة لأمرين :
ـ الأول : كون الصوم من أعمال القلوب التي لاتشاهد بالعين بخلاف غيره من الأعمال
ـ الثاني : أن الصوم في قهر عدو الله الشيطان , وبسبب ذلك خص بالإضافة إلى الله تعالى
قال الغزالي ( وسر الإضافة له تكمن في معنيين :
ـ أحدهما أن الصوم كف وترك وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد
وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى والصوم لا يراه إلا الله عز وجل فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد
ـ والثاني أنه قهر لعدو الله عز وجل فإن وسيلة الشيطان لعنه الله الشهوات وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم {إن الشيطان}ليجري من ابن آدم مجرى الدم .
فلما كان الصوم على الخصوص قمعا للشيطان وسدا لمسالكه وتضييقا لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل . ( إحياء علوم الدين ج1 ص 231)
ـ علاقة الصوم بالنصر عند الغزالي
الغزالي رحمه الله تعالى, يرى بأن الصوم سبب رئيسي من أسباب النصر , وقد انطلق رحمه الله في ذلك من منطلقين اثنين :
ـ الأول أن الصوم فيه محاربة واضحة للشيطان , والشيطان بعتبر عدوا لله تعالى , وفي قمعه ومحاربته نصرة لله تعالى , والله عز وجل شرط نصرته لعبده , إذا تعب العبد في سبيل ذلك , وقدم نصرة لله عز وجل , فالجهد من العبد , والهداية , والنصرة من الرب , كماهو صريح القرآن. ( ففي قمع عدو الله نصرة لله سبحانه وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له قال الله تعالى {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} فالبداية بالجهد من العبد والجزاء بالهداية من الله عز وجل ولذلك قال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} ) ( إحياء علوم الدين ج1 ص 232)
ـ والمطلق الثاني أن التغير الذي شرطه الله لنقل الناس من حالة إلى حالة أحسن , إنما يتم بالقضاء , على الشهوات لأنها مرتع الشياطين , وهي سبب الغفلة , والهزيمة , والبعد عن الله عزوجل .
وهذه الشهوات لا يمكن القضاء عليها إلا بالصوم لأنه يجفف ينابيعها , ويحرق أصولها , وإذا تم القضاء عليها تم تغيير الأنفس الذي شرطه الله للتغيير . قال تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
ـ النوم في نهار رمضان عند الغزالي
في أثناء سرد الغزالي لأحاديث فضل الصيام , ذكر من جملتها طرف من حديث ( نوم الصائم عبادة ) وهذا الحديث جاء مرفوعا عن جمع من الصحابة , منهم عبد الله بن أبي أوفى , و ابن مسعود ,وعلي بن أبي طالب , وغيرهم .
ـ فقد أخرجه البيهقي في شعب الإيمان بعدة أسانيد عن عبد الله بن أبي أوفى ,مرفوعا (نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف) . قال البيهقي وفي سنده : معروف بن حسان ضعيف وسليمان بن عمرو النخعي أضعف منه ( البيهقي الحديث رقم 3654)
ـ ورواية عبد بن مسعود رواها أبو نعيم في الحلية بلفظ (نوم الصائم عبادة، ونفسه تسبيح، ودعاؤه مستجاب ) ( حلية الأولياء ج5 ص 83 )
ـ ورواية علي بن أبي طالب ذكرها الجرجاني في تاريخه , بلفظ ( نوم الصائم عبادة , ونفسه تسبيح ) (تاريخ جرجان ص 370 )
ـ ورواية عبد الله بن عمرو ذكر العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء أنها في أمالي بن منده , وفيها سليمان بن عمرة النخعي أحد الكذابين .
وقد تحصل من كل هذه الطرق أنه حديث ضعيف , تعددت طرقه , واختلفت رواياته , وصار بعضها يعضد بعضا , مماجعل الإستدلال به على فضيلة الصوم , أمر لاضرر فيه , ولعل أن يكون الغزالي انطلق من هذا المنطلق .
ولما أراد الغزالي بعد ذلك الكلام على نوم النهار بالنسبة للصائم , خاف رحمه الله , أن يعتمد الصائم على هذا الأثر , ويجعل النهار كله للنوم , مفوتا على نفسه السر الذي شرع الصوم من أجله .
فالصوم شرع من أجل أن يشعر الإنسان بألم الجوع , والعطش , ويكون ذلك حافزا له على العبادات , والتقرب لله عز وجل , وعلى التصدق على الفقراء لأن ألم الجوع دافع لذلك , فإذا نام كل النهار ستفوته هذه الخاصية التي جاء الصوم من أجلها , قال رحمه الله (و من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش .
ولذلك فصل العلماء في النوم بالنسبة للصائم
ـ مادعت له الضرورة فهو عبادة
ـ ماقصد به التقوي على قيام الليل فهو عبادة كذلك
ـ ماقصد به الإبتعاد عن مجالس السوء , ومخالطة السفهاء فهو عبادة )
أما النوم لتقصير المسافة كما يفعله أغلب الناس فليس من العبادة في شيء , وضرره أكثر من نفعه . ( ملخصا من إتحاف السادة المتقين ج4 ص 249 )
ـ الصوم بين الفقهاء والصوفية عند الغزالي
الغزالي رحمه الله تعالى قسم كتاب الصوم إلى ثلاثة أقسام
ـ القسم الأول : ذكر فيه فضيلة الصوم ومايتعلق بذلك
ـ القسم الثاني : جعله للأحكام الفقهية
ـ القسم الثالث : جعله لحكمة الصوم وأسراره
ومن خلال هذه المحاور الثلاثة , تناول الصوم من جميع جوانبه , وهي المنهجية التي ينبغي , أن يتبعها كل متكلم , أو كاتب عن الصوم لأنها توافق المنهجية القرآنية , حيث ذكرت الحكم , والسر الذي من أجله فرض (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
وفي الفصل الثالث من هذه الفصول , وهو الفصل الذي تناول فيه المصنف ( أسرار الصوم ) قسم فيه الصائمين إلى ثلاثة أقسام
ـ صوم العامة
ـ صوم الخاصة
ـ صوم خاصة الخاصة
ثم ذكر تعريفا لكل من الأقسام الثلاثة , حتى وصل في النهاية إلى التفرقة , بين الصوم عند الفقهاء حيث سماهم (فقهاء الظاهر ) وعند الصوفية حيث سماهم ( علماء الآخرة ) .
وقد ركز رحمه الله على مذهب (علماء الآخرة) مدعيا أن أدلته أقوى , وغايته أسمى , لأن الصحة عندهم بمعنى القبول , والقبول بمعنى الوصول إلى المقصود , وفيها هذا يقول رحمه الله ( فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة لا سيما الغيبة وأمثالها ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا ) ( الإحياء ج1 ص 236)
وهو هنا يشير إلى الخلاف الواضح بين فقهاء الظاهر , وعلماء الآخرة , في موضوع عدم حفظ جارحة اللسان بالنسبة للصائم ,فعلماء الآخرة يرون أن الكذب , والغيبة يبطلان الصوم , وفقهاء الظاهر يرون أنهما ينقصان أجره , ولايبطلانه .
وفي الحقيقة مسألة الغيبة , وقول الزور بالنسبة للصائم اختلف العلماء فيها , هل تبطل الصوم حقيقة , أو مجازا ؟
فمذهب ابن حزم أن الصوم يبطل بكل معصية باشرها الإنسان (مسألة: ويبطل الصوم أيضا تعمد كل معصية – أي معصية كانت، لا نحاش شيئا – إذا فعلها عامدا ذاكرا لصومه … إلى أن يقول : أو كذب، أو غيبة، أو نميمة، أو تعمد ترك صلاة، أو ظلم،) ( المحلى ج4 ص 304 )
وهو قول الأوزاعي كذلك حيث قال الغيبة تفسد الصوم , ويجب القضاء على مرتكبيها (المنهل العذب المورود ج10 ص 90 )
ـ وقال مجاهد : من أحب أن يسلم له صومه فليجتنب الغيبة , والكذب . ( الزهد 1203 )
وقد استدل هؤلاء بظواهر الأحاديث الواردة في هذا الباب , والصحيح مذهب الجمهور من المالكية , والشافعية , والحنفية , أن هذه المعاصي تنقص أجر الصوم , ولا تبطله (فلو اغتاب في صومه عصى ولم يبطل صومه عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه
واحتج بحديث أبي هريرة المذكور وبحديثه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ” رواه البخاري
وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث بأن المراد أن كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام الردئ لا أن الصوم يبطل به . ( المجموع ج6 ص 356 )
وفي النهاية ينبغي للمكلف , أن يعلم أن الصوم أمانة , كما جاء في الحديث ( الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته
والأمانة لا يمكن تأديتها , ولا تسلميها ناقصة , وعليه اتباع مذهب علماء الآخرة ـ كما سماهم الغزالي ـ أحوط للمكلف , وهو أن يصوم بجوارحه كلها , وفي رمضان كله , نهاره للصوم وليله للقيام ويعيش الخوف بين ذلك , وذلك هل تقبل منه أم لا ؟