قراءة في كتاب “دهشة الوجيز” للناقد العراقي محمد الميالي / محم ولد الطيب
منذ فترة أهداني الناقد العراقي محمد الميالي نسخة من كتابة دهشة الوجيز ، ولم يتنس لي قراءتها قبل اليوم، وبعد إكمال قراءته رأيت أن أشرك معي القراء- خاصة المهتمين بالققج- ما ألفيت فيه من عمق وما تناهي إلى عقلي من أفكار خلاقة من خلاله، وما انطوت عليه دفتاه من من رؤى نقدية جد مفيدة لكتاب القصة القصيرة جدا (الققج) ونقادها على حد سواء.
يشتمل الكتاب على 142 صفحة توزعت بين جزأين مختلفين ولكنهما متضايفان في آن.
الجزء الأول: يتضمن دراسات نقدية رصينة؛ تعاطى المؤلف فيها بروح الناقد المتمكن والفنان القدير، مع بعض الإشكالات النقدية في القصة القصيرة جدا، التي لا تنفك محل جدل محتدم بين النقاد، فتطرق الحديث إلى طبيعة وماهية الأدب الوجيز وتاريخ ومعمان تشكل القصة كإحدى أهم عناصر هذا الأدب الموسوم بالإيجاز، من طور ولادتها العسيرة التي اكتنفتها الريبة والرفض الضمني، إلى التتويج على عرش الأدب، إضافة إلى ما انبنت به القصة القصيرة جدا من أركان.
يؤطر المؤلف هذا الكتاب بعبارة أعجبتني وأراها سرت في النص سريان الدم في الجسم، وهي” إن السارد إذا لم يخترق متاهات لم يسلكها غيره، لا يستطيع أن يأتي بصيد يخطف الذائقة”.
وهذا القول وإن كان عاما يخص السرد بمجمله، إلا أنه ينطبق أكثر على القصة القصيرة جدا، التي أعتبرها من وجهة نظري موجهة للمثقفين بالأساس والنخبة حصرا.
قد يبدو في هذا الكلام تجن على هذا الجنس الأدبي الجميل، لكن الوقائع التاريخية والموضوعية تزكي حتما ما نقول، ولا أدل على ذلك ما صار يجنح إليه كتاب الققج من الترميز المبهم الذي يستعصي فك طلاسمه على المثقفين أما العوام فإنهم في حل من فهمه.
وأعتقد أن الناقد محمد الميالي يوافقنا في هذا الرأي حين يقول في هذا الكتاب:”القصة القصيرة جدا نَخب النُّخَب، لا كأسا للعامة في موائدها”.
أما فيما يخص أركان القصة القصيرة جدا التي احتدم حولها النقاش، ما أفضى إلى تعددية مفرطة تسببت في خلق ضبابية في الفهم حالت دون رسم ملامح القصة القصيرة جدا(الققج)، فإن الناقد محمد الميالي، يختزل كل تلك الأركان المتعددة التي عرفتها النشأة الأولى للقصة القصيرة جدا(الققج) في ثلاثة أركان:
أ. الحبكة : وتعني تسلسل الحدث، وتشمل كلا من(العنوان والحكائية والصراع ووحدة الفكرة وفعلية الجمل).
ب- المفارقة: وهي الركن الصادم والمباغت لروح التلقي المرتبط بالإدهاش، مشكلين توأمين لا ينفصلان
ج- التكثيف: ويشمل ( الرمزية والشعرية والاختزال الانزياح).
والمتابع لهذا التقسم الهندسي المحكم الذي اضطلع به المؤلف لابد أن يفهم بعمق هذا الفن الأدبي الجميل.
وعلى الرغم من أن المؤلف يعطي أولوية كبيرة للعنوان في الققج والذي اعتبره” الممثل الوحيد للمفتاح الذي تكتنزه الخاتمة لتشهره عند النهاية لفتح باب التأويل، فإنه لم يعده ركنا منفردا من أركان القصة القصيرة جدا، كما فعل بعض النقاد، بل اعتبره عنصرا من عناصر الحبكة لا أكثر.
ويخلص المؤلف في نهاية هذا الرسمة الجميلة لبنية القصة القصيرة جدا، إلى تحديد معايير أو مواصفات عامة للقصة القصيرة جدا، مفادها أنها” الجنس الذي يتنفس شعرا والبلاغة مذاقه والمجاز فتنته، والمفارقة ديدنه والخاتمة ضربته القاضية”.
الجزء الثاني
أما الجزء الثاني من الكتاب فهو عبارة عن قراءات نقدية وتحليلية في بعض القصة القصيرة جدا لكوكبة من الكتاب المبدعين من عدة دول عربية؛ وهي قراءات تستهدف بالأساس الوقوف على الفكرة العامة للقصة وتفكيك الرسالة التي تحملها واستجلاء كل أبعادها، وفقا للمعايير العامة لكتابة القصة القصيرة جدا من العنوان إلى المتن واللغة وعلامات الترقيم والخاتمة والمفارقة.
وقد حرص المؤلف أن يمهد لكل قراءة نقدية بتقديم معلومة نقدية موجزة تمس بعض جوانب القصة القصيرة جدا،
وهو أعطى للكتاب قيمة أدبية مضافة.
كما يلاحظ أيضا أن المؤلف في خضم هذه القراءات يبقى دوما يسبح في فلك النص من الداخل ولا يسعى إلى النفاذ إليه من الخارج ، في شيء يشبه القراءة البنيوية، فلم يكثر من استدعاء المواقف والأحداث التاريخية والاجتماعية المتعلقة بالسياق الخارجي للنص، وحجته الكاتب في ذلك أن “التحليق بعيدا عن أرضية النص، قد يدخل الناقد في ضبابية لا غاية منها؛ لأن هذا الجنس مكثف ومختزل ويكره الإسهاب كثيرا.
والخلاصة أن هذا الكتاب من وجهة نظرنا عمدة في تثبيت دعائم هذا الجنس الأدبي المستجد الذي لا يزال يشق طريقه رغم العقبات .