يكفي أن تلقي نظرة خاطفة على محتوى وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، وحتى لغة الشارع والتخاطب اليومي، لتدرك أي هوة سحيقة من التفاهة بتنا ننحدر إليها.
لقد تصدر المشهد الإعلامي في الغالب المرتزقة والمطبلون والحرباويون، وضعيفو التأهيل والتكوين. لقد ضاعت رسالة الإعلام التنويرية والتثقيفية وحل الإسفاف والرداءة.
تأمل، عزيزي القارئ، أعزك الله، فحسب حجم الشائعات والأخبار مجهولة المصادر مشكوكة المصداقية، والتحليلات الصبيانية، والعناوين الفخمة المضللة، فضلا عن عدم العزو للمصادر إن وجدت أصلا، إلا من رحم ربي وقليل ما هم .
أما وسائط التواصل الاجتماعي فقد اجتاحتها جيوش الظلام كجراد منتشر، هذا يلقنك دروسا في الثقافة وقد تسرب من الصف الأول الابتدائي، وآخر يحدثك عن الأخلاق، ولكن بلغة الساقطين وأبناء الشوارع، وآخر يحكي معك بلهجة ركيكة التركيب جل حروفها ملحونة، معانيها لغو ومراميها حشو، إذا حكى أرعد وتطاير من عينيه الشرر، ويدعي مع ذلك أنه متأثر أو سليل مدرسة “الديمين” العريقة في الكياسة والذوق والسلوك.
بعض عقلاء العالم ممن لا تزال لديهم ذرة من الحكمة في هذا العالم المجنون تنبهوا منذ أعوام إلى الخطر الذي تشكله التفاهة، فأطلقوا نداء نذير تردد صداه في الغرب بقوة على شكل دعوات تقول: توقف عن جعل الناس الأغبياء مشاهير، أوقفوا التافهين، لا تجعلوا التافهين مشاهير.
إن التفاهة أضحت بحق هي داء العصر ولعل الفيلسوف الكندي المعاصر آلان دونو أشهر من تطرق لها بشجاعة فألف في هذا المجال كتابا بعنوان “نظام التفاهة” حمل صرخة تحذيرية لعالم يتخبط في وحل التفاهة ويسلم زمام أموره في شتى المجالات الحيوية والمهمة إلى التافهين.
إن تهميش القيم والاستسلام الأعمى للرداءة والانحطاط ترك ظلاله القاتمة على الإعلام والفن والأدب والثقافة والعلوم، وحتى الاقتصاد والسياسة، لقد تدهور كل شيء، وزادت ضحكات الاستهجان والتصفيق من حماس منعشي الحفلة التنكرية فتمادوا في التهريج، ثم إن تساهلنا وغضنا الطرف أحيانا، واستحساننا أحايين أخرى لبلاهة التافهين أخرج الأمور عن نطاق السيطرة، وجعل عالمنا مقرفا حقا أكثر يوما بعد يوم.
إن الفيسبوك وأخواتها: مسانجر، واتساب، إسنابشات، تيك توك.. إلخ، هي أكبر بؤر التفاهة وأسمى تجلياتها اليوم، فجأة ترى أحدهم – ودون مقدمات- يغزو هذا الفضاء بتسجيلات صوتية وفيديوهات مبتذلة ورديئة المحتوى ملأى بالصراخ والسب والتأفف.. مناديا بالإصلاح والتغيير، رغم أنه يعجز عن ترتيب غرفة نومه وأغراض منزله؛ فضلا عن إصلاح شؤون أسرته الخاصة، فما بالك بالمجتمع ككل وشؤون الوطن.
إن ظاهرة الخروج عن الذوق العام والمألوف وسلاطة اللسان لكسب ألوف المتابعين تنذر بخطر حقيقي، من يصغي اليوم عندنا لأساتذة الجامعات والمثقفين والمفكرين لا يساوي ثلاثة بالمائة ممن يصغون لنجوم الفيس والفاشينستات .
من يكترث اليوم بالندوات العلمية، والمحاضرات الأكاديمية، وفطاحلة الشعراء المفوهين؟
إن ظاهرة تسليع الجسد – هي الأخرى- وصلت حدا مقلقا، وإذا كان التسكين عند النحاة حيلة العاجزين فالتأنيث أضحى حيلة من يخشون على تجارتهم البوار، بمعنى يكفي أن تقحم صورة أنثى في إعلان ترويجي؛ حتى لو كانت البضاعة لثاما من “توبيت”.
إن التفاهة غزت السياسة والإدارة والأعمال.. السياسي اليوم صاحب الصوت الجهوري المنافق الكاذب المرائي كثير الصراخ متقلب المزاج هو الأنجح، وقس على ذلك رجال الإدارة وعالم الأعمال؛ فالذي يملك جاذبية المدح والإطراء والتملق والتلون هو الأنجح.
آلان دونو في كتابه آنف الذكر يرسم صورة اتراجيدية موغلة في المأساوية لواقع اليوم بسبب سطوة التافهين، حيث أكد بحسرة أنه “لا يوجد دعم – أيا كان وزنه- يمكنه أن يحميك من عذابات الحياة اليومية التي تتطلب احتكاكا – على مستوى التفاصيل- مع التافهين وضيقي الأفق، كل اتصال اجتماعي، كل اجتماع عمل، كل معاملة رسمية، كل مشوار للسوق؛ بل وكل توقف قصير لدى إشارة للمرور، سيحمل معه تحديا حقيقيا. أنتم فدائيون.
إننا جميعا مساهمون في ارتفاع نسبة الهزالة الاجتماعية فمتى نترفع عن مستنقعات السخافة والهزل وتسطيح الفكر؟ متى نرتفع عاليا في سماء التشبث بالقيم؟ متى نتوقف عن الخوض في أعراض الغير؟ متى نتوقف عن البحث عن الشهرة على حساب الفطرة والذوق؟
أيها الإعلاميون والكتاب والساسة وأهل الرأي والحكمة والعقل.. لا تستسلموا. ارفعوا أصواتكم جميعا ضد التفاهة التي باتت تحاصرنا في كل شيء.