في ذكرى رحيل الأستاذ بريْد الليل..
تاريخ كل الأمم والشعوب هناك أشخاص قلة يولون كل اهتمامهم لمصلحة أسمى مما يتهافت عليه الجميع ، فيولعون بدل الذاتي والشخصي بالصالح العام ، وينذرون أنفسهم له دونما تكليف من أحد ، ويتعالون على نزعة الأنا لينشغلوا بالمجموع.
إنه إالتزام أخلاقي أسمى من المنافع والمصالح الذاتية ؛ إالتزام لكن من نوع آخر يعطي لتضحياتهم على جسامتها معان أعظم ، ويضفي عليهم بعد رحيلهم هالة من المجد الخالد ؛ المجد سحر محبب لدى الجميع لكنه حِملٌ عصيٌ وثقيل . ذات مرة حدثني الأستاذ محمد يحظيه ولد بريْد الليل تغمده الله بواسع مغفرته عن المجد والخلود بأسلوبه الخاص قائلا:
في مطلع التسعينات كنت رفقة آخرين في نزهة بتيرس ؛ نزهة استجمام وانتجاع يضيف بابتسامة مهذبة ، كنا بحاجة لشاة نقيم عليها وليمة دسمة في شتاء تيرس القارس ، قادنا البحث إلى مضارب خيام من بدو الصحراء ، رحب بنا شيخ وقور وعرض استضافتنا بكرم حاتمي وعن طيب خاطر ، شكرناه وذكرنا حاجتنا ، نهض الشيخ مسرعا ليقضي حاجتنا مناديا على أحد أبنائه: صدام .. يا صدام .. يا صدام.
ابتسم مرة أخرى ونشق جرعة من تبغ فريدريك الكبير قائلا : (هذا هو المجد والخلود ، ولكن إياك أن تظن أن الأمم والشعوب تمنحهما مجانا).
نطق هذه العبارات واستغرق في صمت التماثيل متأملا ، إلى حد اللحظة لا أعرف شيئا عن بقية تلك القصة ، وما الجدوى من ذلك ؟
لقد اكتملت الفائدة منها وانتهى في نظري وجه الاستدلال ، وليس من الأدب تكدير صفو المتأملين.
إذا كان التأمل فلسفيا يعني استعمال الفكر للنظر في العواقب ، ومرادف للنظر والتفكير ومقابل للفاعلية والنشاط العلمي كما يقول الدكتور جميل صليبا ، وعند المتصوفة “درجة سامية من درجات المعرفة تقوم على تخلية القلب عن التفكير في الأشياء الحسية حتى ينتهي إلى مقام رفيع ” ، فإن الأستاذ ابريد الليل الذي عاش متأملا بل مستغرقا في همومنا الجمعوية وشأننا العام إلى حد يخيل إليك أحيانا أنه يغفل عن الأشياء من حوله بل عن أحوال نفسه يستحق بجدارة على النخبة الموريتانية المثقفة لقب “المفكر الحكيم” ، وكيف لا وهو الذي ارتوت من معين أفكاره وثقافته وحكمته أجيال بأكملها من الشباب والنخب .
هذه الانشغالات والهموم التي عاش لها لا تؤمن السعادة الآنية في مفهوم أهل اليوم بكل تأكيد ؛ تلك السعادة التي يبحث عنها معظم النخبة وأشباه النخبة المنبهرين ببريق الرأسمالية الوقحة ، ويتهافتون عليها في منتجعات و كابريهات الغرب ، ولربما أحيانا في ملاهي الجارة الجنوبية السنغال ، وكيف يكون سعيدا من يحوم في رأسه وحوله الهم الوطني كما تحوم الفراشات حول النار وتحترق بها؟.
لقد قالها ذات مرة بل لأول مرة في تاريخ الفكر الإنساني متصوفة الهند : (إن شقاء الإنسان يأتي من رأسه الذي بين كتفيه) ، مقولة صاغها الروائي والكاتب الصحفي الليبي إبراهيم الكوني كالتالي (في كثرة الحكمة كثرة الغم ، والذي يزيد علما يزيد حزنا).
الأستاذ القومي بامتياز محمد يحظيه رحمه الله كان صوت المنطق والعقل والحكمة ، حمل على عاتقه هم أمة مأزومة مهزومة تعاني الهشاشة والضياع ، أمة تائهة في صخب العولمة وضجيجها الذي يصم الآذان ، حيث يسومنا الغربيون سوء العذاب منذ أزيد من قرن قتلا وتشريدا ويستنزفون خيراتنا ، والمحظوظون منا من يموتون ببنادق العدو مباشرة بدل رصاص الأشقاء المسموم .
إن مأساتنا هي مأساة العصر وأكبر من كل وصف ، ومعاول الهدم التي انغرزت في جدران بيوتنا نحمل أغلبها بسواعدنا فيا للعجب.
لقد تعمد الراحل بهويتنا العربية ، وتشبع بثقافتنا وثقافات مختلفة ؛ سومرية ، فرعونيه ، إغريقية ، صينيه ، إفريقية ، لاتينية ، فكان قيثارة تعزف لنا ألحان مختلف الأمم والشعوب ، يستنطق التجارب ، ويتلمس مظان الخلل والضعف فينا ويصف الدواء لكل داء بحكمة ودهاء ، باختصار عاش مجسدا لمقولة ابن رشد (إن الحكمة هي النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان) .
كانت كل تحليلاته وأفكاره مرهما لجراحنا ، وقنديلا يضيء دياجير ليلنا المدلهم الموحش ، ينثر بذور الحكمة والأمثال مشافهة بلغة سهلة عامية بسيطة ، ويمتشق قلمه فيأسر العقول والألباب ويحير الجميع بعمق وواقعية التحليل وفرادة الأسلوب ، وحين ننكسر بعد أن نفيق من حلم مرغوب صلينا سنين عددا ليتحقق قبل أن نكتشف أنه مجرد كابوس مقنع ونستسلم للحزن والكآبة التي تنخر عقولنا كحشرة عنيدة يمد لنا بأفكاره سلالم النجاة ويرشدنا بتجارب التاريخ .
لعقود خلت تردد صدى كتابات وتحاليل محمد يحظيه ولد بريْد الليل بين مجابات الصحراء الكبرى وهضاب وكثبان تيرس وإينشيري شمالا ، والأحواض الصخرية والسهول في لعصابه والحوضين شرقا ، وكثبان الساحل وصولا إلى جزيرة التيدره والرأس الأبيض على شواطئ الأطلسي غربا، والضفة اليمنى من نهر صنهاجة أقصى الجنوب ، حيث تنهمر دموع السماء الغينية منذ الأزل قادمة من فوتا جالون ، هناك تبكي السماء فوق تلك المنابع بمرارة ولكن الأرض عبر أو بالأحرى على ضفتي المصب تضحك جذلى بمقدم “تُموز” إله الخصب عند البابليين القدماء ، أو الإله “إيل” وابنه البكر “بعل” عند الكنعانيين ، وتلك قصة أخرى.
الأستاذ محمد يحظيه قائد بعثي فذ من طينة خاصة يتقن كل أساليب الأناة والصبر وثقافة “الديمين” ، خبر هذه الأرض بتضاريسها وسكانها وأعيانها ، وعشقها وتعمد بحب صحرائها كما يتعمد أشقاؤنا من مواليد “التبولا” بمياه النهر ، وعاش مؤمنا بوحدة مصير أرض البيظان من عيون الساقية الحمراء إلى نهر صنهاجه، ومن شواطئ الأطلسي إلى أقصى نقطة في إقليم أزواد ، وكان كما تشي بذلك مقالاته يفضل أن يكون بوابا في دولة الوحدة العربية الكبيرة على أن يكون وزيرا في أحد الكيانات القطرية التي رسمها المستعمر بمكره ودهائه ووقفنا أمام تلك المؤامرة الخبيثة حتى الآن عاجزين.
كان يجيد فن الإختلاف في المعترك السياسي يضع المشتركات بتواضع جم على الطاولة ، ويصيب الهدف تماما كرصاصة القناص ، لايعرف المحاباة ولا ينتصر لنفسه ، ويفضل الانسحاب عند أبسط احتكاك تفاديا للمهارشات والصخب ، أذكر أنه رد على مقال واحد ذات مرة بعد أن استفزه أحدهم عبر رسالة مفتوحة في الصحافة نكأت جراحا في نفسه لأنها تتنكر لتضحيات مناضلين قدامى ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وليس الأمر سرا لأن ميزة عدم الرد كانت لازمة في طبعه لوحده.
لقد عاش ليعطي المثل الأعلى والقدوة في عصر اختلطت فيه الأوراق ، يكره التباهي بالذات والاستعراض الاستهلاكي والزيف والسفسطة والرياء والعظمة المصطنعة ، عاش محاربا ضد تفاهة العصر ، وكان أعف وأشرف قلم عرفته ساحتنا الصحفية ، وأنبل فرسان الصحراء الكبرى .
بريْد الليل كان ناسكا بخلقه وسكينته وطبعه ، ولم تصبه ـ رغم الظلم المتكرر من كل الجهات ـ مرارة الإحساس باللا جدوى وغياب الهدف التي انتابت الكثير من كتاب ومفكري القرنين العشرين وبدايات الحادي والعشرين ما جعل أغلبهم يتوقف عن حلم تغيير العالم ، ودفعت بعضهم إلى الخروج نهائيا من المشهد ، أو تبني السوداوية المطلقة إن صح التعبير ، لفهم ذلك يكفي أن نتأمل مقولة الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشل أونفري الذي رد قائلا حين سئل عن نصيحة الأستاذ محمد يحظيه قائد بعثي فذ من طينة خاصة يتقن كل أساليب الأناة والصبر وثقافة “إديمين” ، خبر هذه الأرض بتضاريسها وسكانها وأعيانها ، وعشقها وتعمد بحب صحرائها كما يتعمد أشقاؤنا من مواليد “التبولا” بمياه النهر ، وعاش مؤمنا بوحدة مصير أرض البيظان من عيون الساقية الحمراء إلى نهر صنهاجه، ومن شواطئ الأطلسي إلى أقصى نقطة في إقليم أزواد ، وكان كما تشي بذلك مقالاته يفضل أن يكون بوابا في دولة الوحدة العربية الكبيرة على أن يكون وزيرا في أحد الكيانات القطرية التي رسمها المستعمر بمكره ودهائه ووقفنا أمام تلك المؤامرة الخبيثة حتى الآن عاجزين.
كان يجيد فن الإختلاف في المعترك السياسي يضع المشتركات بتواضع جم على الطاولة ، ويصيب الهدف تماما كرصاصة القناص ، لايعرف المحاباة ولا ينتصر لنفسه ، ويفضل الانسحاب عند أبسط احتكاك تفاديا للمهارشات والصخب ، أذكر أنه رد على مقال واحد ذات مرة بعد أن استفزه أحدهم عبر رسالة مفتوحة في الصحافة نكأت جراحا في نفسه لأنها تتنكر لتضحيات مناضلين قدامى ، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وليس الأمر سرا لأن ميزة عدم الرد كانت لازمة في طبعه لوحده.
لقد عاش ليعطي المثل الأعلى والقدوة في عصر اختلطت فيه الأوراق ، يكره التباهي بالذات والاستعراض الاستهلاكي والزيف والسفسطة والرياء والعظمة المصطنعة ، عاش محاربا ضد تفاهة العصر ، وكان أعف وأشرف قلم عرفته ساحتنا الصحفية ، وأنبل فرسان الصحراء الكبرى .
ابريد الليل كان ناسكا بخلقه وسكينته وطبعه ، ولم تصبه ـ رغم الظلم المتكرر من كل الجهات ـ مرارة الإحساس باللا جدوى وغياب الهدف التي انتابت الكثير من كتاب ومفكري القرنين العشرين وبدايات الحادي والعشرين ما جعل أغلبهم يتوقف عن حلم تغيير العالم ، ودفعت بعضهم إلى الخروج نهائيا من المشهد ، أو تبني السوداوية المطلقة إن صح التعبير ، لفهم ذلك يكفي أن نتأمل مقولة الفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشل أونفري الذي رد قائلا حين سئل عن نصيحة يقدمها لشباب العصر: “الباخرة تغرق ، عليكم أن تحافظوا على وقاركم ، موتوا وأنتم واقفون!”.
وإذا كان الأديب السوفيتي الشهير إسحاق بابل صاحب مجموعة القصص القصيرة الشهيرة “الفرسان الحمر” في كلمته أمام المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتاب السوفييت عام 1934 قد تهكم على نفسه ساخرا بأنه اخترع جنسا أدبيا جديدا اسمه “الصمت” في ظل حساسية البلاشفة المفرطة تجاه النقد ، فإن محمد يحظيه عاش محنة الصمت بيننا بصبر تجنبا للإسفاف والتردي وترفعا عن المهاترات لكنه لم يتنازل عن دوره التنويري ، وترك بصمة خالدة وفريدة في المشهد السياسي ، وظل بالمرصاد للقولبة الفكرية ودعوات الانبتات من الجذور وتيار العولمة الجارف ، منغمسا بحرفية فنان في السياسة والتثقيف ، .
ستظل حكاية الراحل ابريد الليل في هذه الربوع والأنجاد كنجم سطع نوره فجأة ثم تلاشى ، أو عصفور جميل حلق في فضائنا هنيهة ثم اختفى ، أو حلم راود مخيلاتنا ذات يوم مبشرا بعالم جديد مثالي ثم رحل ، أو سحابة أمطرت صيبا فارتوت الأرض بمائها واخضرت بها المروج وازدانت ثم انقشعت .
لقد رحل بجسده بعيدا دون أن نقلده وساما واحدا ، رحل دون وداع لكنه صنع للحياة والأخلاق والقيم والمبادئ مجدا وجلالا وبهاء ، وتقلد في قلوبنا كل أوسمة المجد والشرف ، رحل وبقيت عطاءاته وكتاباته في السياسة والفكر والأدب تحكي عراقة أمة وتاريخ قطر وفرادة شعب ، وقدرة رجل على العيش من أجل مصلحة الجميع ، وإدارة تناقضات ومفردات الحياة في مجتمع فوضوي لا مبالي .
لم ننصف جميعا الأستاذ بريْد الليل حيا بين ظهرانيا ، ولن يتم برأيي إنصافه بعد رحيله في الأفق القريب ، لكن الكاتب الاسكتلندي توماس كارليل يرى (أن تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء).
إذن سيكون للتاريخ رأي آخر!
سلاما أيها الصقر الثائر
سلاما أيها العبقري الناسك
سلاما أيها الحكيم العظيم.
محمد محمود إسلم عبد الله