مكر الشعوبية الجديدة / محمد فاضل سيدى هيبه
لقد أثلج صدري هذا الفرح العارم و الاهتمام المتجدد باللغة العربية و إدراك الكل، متعلما و غير متعلم، للعلاقة المقدسة لهذه اللغة بالدين الإسلامي الجامع فى عالميته و تعاليمه العابرة للأمم و الشعوب. كما يسرني التحول الذى لا تخطؤه العين لفهم من كانوا لا يدركون حاجة بلدنا موريتانيا إلى لغة وطنية و رسمية تجمع بين مكونات شعبه، لا تكون أقرب لبعضها من بعض، لكنها قريبة منها جميعا بحكم الدين الحنيف الذى تدين به كلها، و الوطن المشترك الذى يجمعها. هذا هو التقييم السليم الذى يختزنه الضمير الجمعي للموريتانيين، كل الموريتانيين .. لكن قد يتدخل الشيطان – كدأبه – فى الأمر و يوَّسوِس لأقوام معانيَ و أهدافا لا تتلاءم مع هذه النظرة الإجماعية، و تسعى لتحقيق أهداف شخصية ضيقة و سياسية عنصرية.
هذه الحيلة جُربت إبان ما عُرفَ بمؤتمر ألاك سنة 1958 الذي تمَّ فيه تذويب الهوية العربية للشعب الموريتاني، و استبدالها بالهوية الإسلامية الخالية من كل معنى قومي عربي. بحجة أن الموريتانيين جميعهم مسلمون. تناسى أو تجاهل المؤتمرون آنذاك أن لا تعارض بل يوجد تكامل تام و عضوي بين الهويتين العربية و الإسلامية. مثل ما أن الدول الإسلامية الأخرى على عرض و طول الأمة متمسكة بهوية شعوبها، و أن الإسلام لا يطلب من الشعوب التخلى عن هويتها القومية. على العكس من ذلك، فإن تعاليم الاسلام فيها أن الله سبحانه خلقنا شعوبا و قبائل، كما ورد فى الآية الكريمة. رغم ذلك عمد الشعوبيون الجدد إلى محاولة استغلال البعد المقدس للغة العربية و ارتباطها العضوي بالإسلام ليسلب قوما مخصوصين هم العرب من حظهم الغير قابل للتصرف من هذه اللغة. لا الإنصاف كما هو جلي، و لا الواقع و لا المنطق و لا العقل، يجيز مثل هذا العمى الفكري … و إذا افترضنا جدلا – والافتراض يتعدى أحيانا إلى اللامعقول – أنْ بالإمكان فصل العرب عن العربية، فأية لغة يقدم لهم هؤلاء بديلا عنها؟ أو لم يفكروا فى الأمر أصلا، حسبهم أن يعتبروا الشعب العربي شعبا من بين الشعوب الإسلامية الأخرى هو على نفس المسافة من هذه اللغة؟ لقد ذهب بعضهم إلى القول بأن كلمة العربية أو اللسان العربي لا تعنى اللغة و إنما هي صفة مرادفة للبيان، للكلام البليغ ليس إلا ! هل لا أجابوا إذن على نفس السؤال المفترض، ما هي اللغة البديل التى يقترحون؟ أم لم يريدوا من الأمة العربية إلا أن تخرس؟؟ سخافه ما بعدها سخافة !!.. من يريد فصل اللغة العربية عن من يناغون بها قبل الفطام كمثل من يريد نزع درع السلحفاة عن جسمها و تبقى حية .. فى الحقيقة هذه المحاولة الغبية هي جزء من مؤامرة شعوبية أكبر ترمى إلى تجريد العرب كحضارة من كل تميٌّز، بدء بمحاولة افتعال خصومة عقدية بين العروبة و الاسلام، و انتهاء بتمييع مفهوم القومية نفسه، مرورا بتَتفِيه التاريخ العربي و طمس دور العرب فى الحضارة الإسلامية. و إضافة معظم المآثر العربية عبر التاريخ لأعلام غير عرب، إما للفرس و إما للترك أو غيرهم من الأعاجم الذين لا ينكر أحدٌ من العرب فضلهم و دورهم الخطير و إسهامهم الكبير و ما أثروا به الفكر الاسلامي. تُصوِّرُ الشعوبية الجديده، سيرا على هذا النهج، القومية على أنها أصبحت متجاوزة و متقادمة، إلى آخر ذلك من التخرصات .. متناسية، على العكس من ذلك، عودة القومية بقوة بعد أن تغاضت عنها الشعوب الأوروبية بُعيدَ الحرب العالمية الثانية. من مظاهر هذه العودة للقومية ما يجرى الآن فى أوروبا الشرقية من لًيَّ أذرع بين الروس و أعضاء الناتو حول أكرانيا؛ و قبل ذلك بين أميركا و بريطانيا و أستراليا، أي الحلف الآنغلو ساكسون من جهة، و فرنسا من جهة ثانية؛ و الصراع المحتدم بين الصين و الولايات المتحدة، من جهة ثالثة. و هل ما تقوم به إيران بالتعاون مع الامبريالية الأميركية و الصهيونية، و عربدتها فى سوريا و العراق و اليمن و لبنان و الأحواز … إلا محاولة تهدف إلى إعادة المجد القومي الفارسي؟ أما على مستوى الدول المتوسطة مثل الهند (نلاحظ أنها أصبحت أقرب لنادى الدول العظمى)، و الكوريتين، و تايوان، و كندا، و البرازيل الخ .. فالتنافس بين هذه البلدان على أشُده فى المجالات كافة، العسكرية و الاقتصادية و السياسية … أما العرب فتُصوَّر لهم القوميةُ على أنها تخلف و عنصرية و شوفينية و كفر و إرهاب .. فابتعدوا أيها العرب عن القومية و تقبلوا التجزئة و القطرية و الاحتلال الاجنبي و اتركوا طلب الوحدة فإنها مستحيلة .. الخ من المثبطات و العداوات التى هي أكثر نفاذا فى الواقع من الحرب العسكرية .. تَدخلُ فى هذه الهجمة العدائية ما أشرنا إليه من محاولة تذويب الشخصية العربية فى البعد الإسلامي، و تكرار أن العربية لغة القرآن، لغة الإسلام، اللغة الجامعة كذا الخ .. و هو كلام حق أريد به تحييد الحامل الأول لهذه الرساله و هذه اللغة و هم العرب. تماما مثلما قصد الشعوبيون الجدد فصل الأعلام و القامات القومية المعاصرة من أمثال جمال عبد الناصر و صدام حسين و محمد يحظيه ولد بريد الليل و أحمد فال أحمد الخديم و غيرهم، بالتركيز على المناقب الشخصية لهؤلاء العظام و تجاهل القالب الفكري القومي الثوري الذى صهرهم و بفضله بلغوا الشهرة المعروفة عنهم. فمن المؤكد أنه لولا مدرسة البعث لبقيت هذه الشهرة فى حدودها المحلية .. شاهدنا أيضا تلك المحاولة لتعويم الدور القومي فى المبالغة و الإسراف الماكر للشعوبيين الجدد فى ذكر مميزات الشهيد صدام حسين الاستثنائية – و هي بالفعل مُميزات استثنائية – و ذكائه المفرط و هدوءه الأسطوري و إنسانيته الأصيلة غير المتكلفة و شجاعته أمام الموت و حبل المشنقة قد التف على عنقه .. و شاهدناه فى إطراء المرحوم محمد يحظيه ولد بريد الليل و ذكائه و وسع ثقافته و ثباته على المبادئ الخ .. و شاهدناه فى الثناء على المر حوم أحمد فال أحمد الخديم، علمه و ورعه و اخلاقه الخ، وهي خصال يجمع عليها كل من عرفوه .. لكن هؤلاء جميعا لم تتجاوز شهرتهم حيز القطر أو حواليه، لولا انتماءهم لحزب البعث و تشكيل شخصيتهم فى مدرسته.
خلاصة القول أن حُقَّ للموريتانيين و للعرب و للعالم الاحتفال بهذا اليوم العظيم، يوم أعزِّ لغةٍ على الأرض، لغةِ الإسلام، اللغةِ الوحيدة الباقيةِ بعد اندثار جميع اللغات، باعتراف الدوائر العلمية الغربية نفسها .. لكن لا يستطيع أحد أن يعزل العرب عن لغتهم التى منَّ الله عليهم بها، و لا قوة فى الأرض تنزعها منهم لأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.