“عينينَ” من “توكومادي”.. اللحظات العسيرة الأولى لميلاد “كادح” (1/2)

تانيد ميديا : حطّت الطائرة بالمعلم في كيهيدي، وكان ذلك منتصف الرحلة فقط. كلّف الوالي الحاكم بتوجيهه للقرية المحول لها، وبعد أيام وصل عنصران من الجمارك، جمع المعلم متاعه وعبر الزورق النهر والليل بصمت، وفي القرية استقبله مراقب المدرسة بحسانية مكسرة؛ “ماذا أنت؟”

كانت القرية قد استسلمت بالفعل لنوم الهزيع الأخير من الليل، ولم يمنع ذلك أن يحتشد جمع صغير في بضع دقائق، زوار مهمّون يدفعهم الفضول لمعرفة من يكون زائر الفجر هذا. شيخ القرية؛ أو القريتين في الحقيقة، مدير المدرسة وآخرون. جرى حديث بالبولارية وكان المعلم ساكتاً، وأجمعوا بعد أخذ وردٍّ أن الضيف غير مرحّب به؛ كان للمعلم “دمبه سي” مشكل صغير؛ أنه بيظاني.

مسار طويل قبل توكومادي

لم يكن العام 1967 كافيا لقرية توكومادي، وقرى أخرى كثيرة على ضفة النهر، للتعافي من طعنة الخاصرة القريبة في 1966، كان ذاك عاماً بشعاً بطله “التعريب”. عنف عرقيّ وهمجية عنصرية، وأسئلة هويّة تحولت تشكيكاً في الانتماءات الوطنية، وبدا لوهلة أن أي حديث عن هوية موريتانيا، وفي مركز الدائرة منها اللغة، ستكون ثمنه الدماء.

كان المعلم حديث عهد بقطع الصلة بالانتماء القومي العروبي، و ليس اسمه “دمبه سي،” ليس بعد على الأقل، ولم يكن ذلك بعيدا على أي حال. كان ما يزال محمد عينينَ ولد أحمد الهادي؛ الرجل ذو المهمّة؛ مهمة واضحة وبسيطة وليست سهلة بأي حال؛ تنظيم مؤتمر في توكومادي وإطلاق حركة الكادحين.

بعد سبع وخمسين سنة، في استوديوهات صحراء 24، وبوسائل تقنيّة وإعلاميّة لم تكن لتخطر له حينها على بال، سيتذكر “عينينَ” كل ذلك بوضوح، وبتفاصيل دقيقة بالنقطة والفاصلة، كان لافتاً أن يستحضرها رجل ناهز المائة (96 عاما). كان “سعيداً بشهادته على عصره،” وكان غريباً أنه لم يحكِ القصة من قبل، وكان الأغرب أن أحداً لم يسأله قط.

“لا يقول” عينينَ “أنه ولد ثورياً.” وفي طفولته تحت وطأة الاستعمار، حين طلب منه والده جمع العشر (الأتاوة) من أبناء جلدته للمستعمر، كان رفض ولد أحمد الهادي قاطعاً دون مهادنة. لكن ذلك لم يكن ثورة صغيرة، “إنما سمع دائماً في فطرته صوتاً رافضاً للظلم.”

أربعون عاما قبل توكومادي

في بادية مال في الوسط الموريتاني، “ولم تكن حينها قرية ولا كانت هناك قرى أصلا،” لأسرة علم ومع محظرة جدّ عامرة بالطلَبة، وُلد محمد عينينَ ولد أحمد الهادي، وبعد عدّة محاولات، أثناء شهادته “لبودكاست مبتدأ،” يضبط تاريخ مولده بالعام 1929، “على أي حال كان عام بوحيمرون” وفي كل الأحوال “فإن ذاكرته لا تسعفه في استحضار لحظة ميلاده،” يُحيل لكلمة همّام فالْ بمرح

1946، سنوات بعد ذلك، كانت سنوات الانفتاح من الإدارة الفرنسية. خرجت بالفعل منتصرة من الحرب العالمية الثانية، لكنه نصف انتصار فقط. أثناء الحرب كانت فرنسا تبسط جناحيها على مستعمراتها، لكنها وقعت هي أيضاً فريسة احتلال ألمانيّ. لم يكن سهلاً عليها تجاوز كل ذلك، وكان صعباً على مستعمراتها أن تغفر لها ذلك أيضا.

خففت إدارة الاستعمار قيوداً هنا، وأطلقت وعودا هناك. أخيراً، أصبح للجغرافيا المترامية الأطراف تمثيل في البرلمان الفرنسي. أطلق الفرنسيون عليها اسم موريتانيا، وكانت فوضى جغرافية واجتماعية يجمعها أقلّ القليل، وطبعاً، مثلها كان وعي “عينينَ” السياسي فوضوياً وغير منظم، وحين عبّأَ الجماهير ضد الفرنسي “رازاك،” لانتخاب “أحمدو ولد حرمه،” كان كل ذلك فوضوياً وساذجاً؛ “انتخبوا بيظانياً ضد نصرانيّ.” تلك كانت بذرة نيّة سياسية طيّبة على أي حال.

الوعي السياسي المؤطر سيأتي سنوات بعد ذلك، لكن قبلها سنوات من المتاجرة الخفيفة بين السنغال وغامبيا، وعودة اضطرارية للوطن لإعالة الأسرة، والتحاق بمدرسة المعلمين في سنوات الدولة الأولى، والتخرج معلماً للغة العربية، ثم تأسيس نقابة المعلمين العرب، الامتداد النقابي “للقوميين العرب.” وانتماء، بتوجيه من محمدن ولد اشدو، “للحركة الناصرية.” كانت سنوات الستّينات عاصفة، وكذلك كان المدّ الناصريّ.

لكنّه “أفلس.”

ومعه “القومية العربية كلّها، والقومية الأفريقية، ومثلهما أفلست الدولة.” وبدا أن الطرق كلها مسدودة، وكلّ الأنفاق محجوبة عن أي ضوء. “أحداث 66” ودماء أبناء الوطن الواحد هنا، “نكسة 67” ودماء أبناء الأمة الواحدة هناك.

 

الطريق إلى توكومادي 

“التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية لا تحدث” في رأي عينينَ “إلا لأسباب” وإذا كانت “أحداث 66” و “نكسة 67” عوامل سالبة في هذا التحول، فقد جاءت عوامل الإيجاب من بعيد؛ بعيد جداً من ثورة ماو الثقافية في الصين، ونقيض لها جدا في الموقع لا المضمون؛ من أحداث مايو 68 في فرنسا. كانت تلك صفعة أخيرة لجنرال التحرير شارل ديغول، لقد أطاح به الطلاب.

بدأت التيارات تتجمع في قاع النهر، والجداول تحدد مساراتها، ولم يرد الناصريون الخائبون في ناصريتهم تركَ وجهتهم للرياح ولا للخيبة. كان وقتا للمراجعة والحساب والتحول في العالم العربي كله. قوميّون كثر استيقظوا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجدوا أنفسهم قد تحولوا في مواقعهم إلى ماركسيين حمر.

والناصريون الموريتانيون قرّروا وجهتهم، كانت دمشق. طار محمدّن ولد اشدّو إليها بأفكار وعاد بأخرى، هناك في مؤتمر جمع قوميين عربا عاما بعد النكسة، قرّروا الاكتفاء من اجترار الخيبة. حان وقت التجاوز، جاء القرار. وعاد ولد اشدّو بالمقررات والأفكار والأحلام الجديدة. جرت مداولات هنا وأخذ وردّ هناك. ثم قام كارل ماركس وماوتسي تونغ خطيبيْن داخل موريتانيا بلهجة حسّانية هجينة لأول مرة.

كان التوجه اليساري “الوطني الديمقراطي” صيغة ماركسية معدّلة، “صيغة موريتانية” يقول معتنقوه، وكانت ماركسية ماو المتشبعة بالثقافة الصينية مرجعاً في ذلك. تبنى القوميون القدامى الطرح الماركسي الاقتصادي والاجتماعي، لكن “ما حاجتنا لطرحه العقائدي، نحن مسلمون.” يتساءل “عينينَ” اليوم باستغراب، كما لو استعاد مناظرات تلك الحقبة.

ثلاث سنين قبل ذلك، عام 1965، أغلق النظام أي منفذ للحياة السياسية إلا عبر حزب الشعب، كانت تلك سنوات حضانةٍ للدولة الوليدة في رأي المختار ولد داداه، وغبار القبائل والأعراق الذي أطلق عليه اسم شعب، ستذروه الرياح لو تجاذبته التيارات والأحزاب. كان المزاج خانقاً، حاداً ومغلقا. لكن التيار الوطني الديمقراطي وُلد عنيداً مندفعاً، تعلّم العدْوَ قبل المشي. سيَحبُو فيما بعد. في كل الأحوال قرّر الانطلاق. لا بد من تأسيس، لا بدّ من مؤتمر.

يستمرّ ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى