دور العلماء وأئمة المساجد في محاربة الفساد(الحلقة الثالثة)

تانيد ميديا : الحرب على الفساد مسؤولية مشتركة بين أطياف المجتمع، وهي من أعمال الحسبة التي يثاب المرء على فعلها ويعاقب على تركها، ودور العلماء وأئمة المساجد فيها مطلوب , بل هو من باب أولي، وعلى السلطات العليا إشراكهم في الحرب على الفساد، فإليهم تعود سلطة التوجيه والنصح والإرشاد، وعليهم مسؤولية تبيين حقيقة الفساد ونصح المفسدين والتحذير من عواقبه بالأدلة الشرعية ,  فكما يقول محمد عبد الكريم المغيلي في رسالته للحكام في ردع الناس عن الحرام: ” إنه لا بد من ردع المفاسد الدنيوية بالمقامع الشرعية علي حسب الطاقة البشرية، ولا يجوز أن يترك مفسد على فساده ” . وتبيين هذه الحقائق من مسؤولية العلماء وأئمة المساجد.
والأساس الذي يستمد العلماء منه هذه السلطة، هي مكانتهم في المجتمع ووعيهم بمسؤولية الأمانة ـ أمانة التعليم والنصح والإرشاد ـ: ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل “.
ولا غرو إن كان العلماء والأئمة ــ على مر العصور ــ هم الشموس المضيئة والأعلام الهادية والأدلاء علي الخير، فقد قال النبي صلي عبيه وسلم: “إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض وحتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون علي معلم الناس الخير “، ولعلمائنا ــ جزاهم الله خيرا ـ حصة كبيرة من هذا التعليم والتبين، عبر عنها العلامة المختار ابن بونه بقوله:
ونحن ركب من الأشراف منتظم…….. أجل ذ القدر قدرا دون أدنــانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة ………. فيها نبين دين الله تبيـــــــانا
كما عبر عنها الشيخ سيد محمد الكنتي في المقطوعة الشعرية التي أرسلها إلي الشيخ سديا ابن المختار ابن الهيبة، المسماة ب ” بهجة الرواد لمنتجعي رياض الجهاد من العلماء والرؤساء والفتيان الأنجاد”
فقد طغي وبغي أهل الفساد وقد ……قل المساعد في إصلاح ما حزبا
فلتنظروا في أمور الدين إن له …….مدي الزمان حماة سادة نجبـــــــا
لا يجبنون ولا تنحل عقدتهــــم ……..ولا يخافون ممن لام أو عتبــــــا
وهنا أقترح على السادة العلماء والأئمة، إعداد مقاربة في الحرب على الفساد، تستمد من أصالة التشريع الإسلامي كتابا وسنة واجماعا واستنباطا، مع تجديد في الوسائل والآليات والأسلوب الديني، ولا بأس أن يكون ذلك بالتعاون مع الوزارة الوصية ــ وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي ــ، وفي حال التفكير في إعداد هذه المقاربة، أقدم ثلاث توصيات، الأولي والثانية موجه إلي العلماء والأئمة، والثالثة موجه إلي وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي
التوصية الأولي: تتعلق بضرورة اهتمام العلماء والأئمة بمعرفة واقع الفساد وصور أشكاله
التوصية الثانية: تتعلق بمحاربة الفساد من خلال المساجد
التوصية الثالثة: موجه لوزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي تتضمن مجموعة من المقترحات
التوصية الأولي: ضرورة اهتمام العلماء والأئمة بمعرفة واقع الفساد وصور أشكاله
مشاركة العلماء  والأئمة في الحرب على الفساد تقتضي منهم الاطلاع الواسع على واقع الفساد، فهناك الفساد الاجتماعي، والفساد المالي، والفساد الإداري، والفساد السياسي، وحتى يتمكنوا من مساعدة الجهاز الحكومي وتوجيه المجتمع ــ وتحذيره من الوقوع في الانحراف والزلل الذي قد يترتب عن هذه المفاسد ــ لا بد من ربط الأحكام الشرعية والخطب المنبرية بالواقع ربطا صحيحا ــ ، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال العناية التامة بمعرفة الواقع معرفة صحيحة,  أيا كان هذا الواقع , ولا تعني المعرفة هنا، التعمق والاستغراق في الواقع محل النظر، بل يكفي فيه ما يوضح الصورة ويوصل العلم ويرفع الجهالة.
ومما يعين على ذلك استشارة المتخصصين وسؤالهم، فمواكبة العلماء والأئمة للتطور والتفاعل مع الأحداث الواقعية، أمر لا غني لهم عنه في ظل ما يشهده العالم من سرعة في التطور، وذلك لأجل إدراكهم لمضامين الواقع وفق الضوابط الشرعية، حتى ولو أدي بهم ذلك إلي تعلم بعض العلوم والحرف والاستفادة من معطيات العلم الحديث، فهذا من العادة الواجبة التي اعتبرها العلماء، كالشيخ محمد المامي في كاتبه البادية إذ يقول: ” ومن العادة الواجبة تعلم الحرف المهمة “, وقال في نظمه لورقات إمام الحرمين تقريرا لهذا المعني:
ما لا يتم واجب إلا به        فإنه لا بد من إيجابه.
فسلامة الأحكام والفتاوي الشرعية ــ التي ينتجها العلماء ويستنبطونها ــ تتوقف على معرفة الواقع في جميع أبعاده الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولابد للفقيه الشرعي من هذه المعرفة حتى لا يعيش منعزلا عن المجتمع الذي يعيش فيه، وحتى لا يقع شرخ بين الأحكام الشرعية والواقع، فتكون الأحكام بذلك في واد ويكون الواقع في واد آخر، فلابد للعلماء من التعايش مع الطوارئ الدنيوية , إذ من المستحيل المشاركة في تغيير واقع دون فهمه والإحاطة بمكوناته ومؤثراته، لهذا يقول العلامة الأخضري في السلم المرونق في الحث على تقديم التصور (فهم الواقع) على التصديق (الحكم):
إدراك مفرد تصورا علم ….. ودرك نسبة بتقديم وسم
وقدم الأول عند الوضع …. لأنـــــــــــــه مقدم بالطبع
كما أكد ابن القيم رحمه الله ــ في كتابه إعلام الموقعين عن رب العلمين ـ على ضرورة معرفة الواقع، فقال: ” ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوي والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه، والثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلي عليه وسلم.. ”
وهذا المنحى هو ما جعل الكثير من علماء التجديد يبالغون في الأخذ بالاستحسان باعتباره أحد المصادر المستقلة للفقه، لأنه قادر علي استيعاب كل ما هو جديد ومعاصر، ومن أشهر من أخذ بهذا الدليل واحتج به، أبو حنيفة، كما أخذ به احمد ابن حنبل فيما نقل عنه ابن تمية وابن قدامة المقدسي، أما المالكية فقد قال القاضي عبد الوهاب ” ليس منصوصا عن مالك إلا أن كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به”  وأما الشافعية , فإنهم لا يقولون بالاستحسان كدليل , بل إن الإمام الشافعي رحمه الله عقد بحثا في كاتبه ” الأم ” سماه ” كتاب إبطال الاستحسان ”
وانطلاقا من هذا الأساس، فإن ما ندعو إليه في هذه التوصية، هو أن يفهم الإمام والفقيه الواقع ويتواصل بشكل دائم مع ما يجري في المجتمع من أحداث، وضرورة الوعي بأحواله وبما يجري فيه من ميول ونوازع، فهذا مهم في بناء الأحكام الشرعية، وفقا لمعطيات الواقع،

التوصية الثانية: محاربة الفساد من خلال المساجد
ليست هناك مؤسسة في الإسلام، تحظي بمثل ما يحظى به المسجد من الأهمية، إذ هو المؤسسة الدينة التي تكتسي أهميتها من أعظم ركن في الإسلام، وهو الصلاة، فهي الصلة بين العبد وربه، وهو المكان الأطهر والأشرف بإضافته إلى الله في تسمية المساجد بيوت الله والأكثر روحانية على الإطلاق، ففيه يتعلم المسلمون، ويكتسبون الأجر ويحتسبونه عند الله.
ومكانته في النفس، وكونه أفضل بقعة ينطلق منها العلماء والأئمة لتوجيه الناس وتعليمهم وتفقيههم، هي ما جعلتنا نلفت انتباههم الي محاربة الفساد من خلاله، وليكن ذلك بالتصدي لأشكال الفساد الأخلاقي من رشوة ومحسوبية وفساد إداري ومالي، فمهما بلغت المنظومة التشريعية من تطور ومهما اتسمت التدابير القانونية من صرامة أو أوتيت الهيئات القانونية والرقابية من صلاحيات واسعة، تبقي محاربة الفساد شأنا لا بد فيه من تنمية الوازع الديني وتلك مهمة يقع جزؤها الكبير على عاتق العلماء والدعاة وأئمة المساجد.
توصية: موجه إلي وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي
بعد أن نوهنا بأهمية دور العلماء والأئمة في مواجهة الفساد ــ وبعد أن ذكرنا بأهمية معرفة الواقع ودور المسجد وأنهما عنصران فاعلان في محاربة الفساد، ــ لا بأس أن نشفع ذلك بتوصية موجهة إلي وزارة الشئون الإسلامية والتعليم الأصلي باعتبارها الوزارة الوصية على العلماء والدعاة والأئمة، وتتمثل هذه التوصية في مجموعة من المقترحات نشير إليها فيما يلي:
المقترح الأول: العناية بالعلماء والأئمة من خلال التكوين والتأطير
من المهم جدا الانتباه إلى دور العلماء والأئمة في محاربة كل الظواهر المخلة والتي قد تصيب المجتمعات، فظواهر الفساد والشذوذ المنتشرة اليوم، لا تقل خطرا عن الأمراض التي تصيب الأبدان،
والأساس الذي يجب التركيز عليه في محاربة تلك الظواهر هم العلماء والأئمة والدعاة، بفضل ما يمتلكونه من مهارات شرعية تأهلهم للتواصل مع الناس وحل مشاكلهم، لهذا أقترح على الوزارة، أن تقوم بتأطير الأئمة والدعاة وتكوينهم على جملة من المهارات كالخطابة والتواصل الاجتماعي للرفع من مستوي التأثير الديني باعتباره يمثل الحل الأول في كل المشاكل، ويكون ذلك عن طريق الدورات التكوينية المكثفة، فالدولة كما تستثمر في الأمن وفي الدفاع وفي الزراعة….، عليها أن تستثمر أيضا في الجانب الروحي.
المقترح الثاني: إنشاء معهد لتكوين العلماء والأئمة
أقترح على الوزارة إنشاء معهد لتكوين العلماء والأئمة، فالمرفقية العمومية للمسجد كما نص عليها القانون رقم 2003 / 31 الصادر بتاريخ 24 يوليو 2003 المتعلق بالمساجد، تفرض إنشاء معهد يتكون فيه الأئمة والعلماء، على غرار المرافق العمومية للدولة، ويتم اكتتابهم للمساجد بنفس الطريقة التي يتم فيها الاكتتاب للوظائف الأخرى، فهذا مبرر مرفقية المسجد وهو ما يبرز أيضا أهمية الحقل الديني ويحافظ على هويتنا وسيادتنا الإسلامية، ويجعل من الإمام عنصرا فاعلا في الحياة العمومية.
المقترح الثالث: إعادة النظر في النظم القانونية الني تحكم سير المساجد والمحاظر والأئمة
من المعروف أن الغرض من سن القوانين هو تحقيق العدالة وإيصال الحقوق لأصحابها، ولا يتحقق هذا المقصد دون انسجام مع التطلعات المجتمعية ومواكبتها ودون المراجعة المستمرة للقوانين، فهذا ما يحقق العدالة والمساواة، لذلك أقترح مراجعة القانون رقم 2003 / 31 الصادر بتاريخ 24 يوليو 2003 المنشور في الجريدة الرسمية تحت العدد 1058 بتاريخ 15 أغسطس 2003 , والنظام الأساسي للمحاظر الصادر بموجب المقرر رقم 0287 بتاريخ 9 مارس 2015 والمنشور في الجريدة الرسمية تحت العدد 1336 بتاريخ 30 مايو 2015. فمراجعة القوانين بصورة عامة مسألة ضرورية أمام التحولات لضمان الرقي نحو التقدم والتنمية , وهو ما يمثل الشرعية لمواجهة كل الاختلالات .

إبراهيم الب خطري

إطار في وزارة الشؤون الإسلامية والعليم الأصلي

باحث في القانون والدراسات الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى