إلى متى سيبقى البناء الاجتماعي القبلي، يصارع الأنظمة السياسية، و ينتزع منها قابليتها للتحديث

تانيد ميديا : أولا:نعم،  لقد طرح االسؤال حول ” قيمة” الوقت في مجال الأقتصاد، وهو قابل للطرح حول ” الزمن” الممتد  في العصف بالبناء الاجتماعي، أو مساندته لإبقائه راسخا، شامخا، كالطود رغم  عوامل التعرية التي تؤثر في شكله الخارجي، دون أن تستطيع  تقويضه،،؟

وهل يكفي البحث  عن الحلول للمشاكل الاجتماعية الحالية التي تواجه  نظم المجتمع، وذلك  لإبقاء البناء العام  قابلا لاحتواء  تطلعات الأجيال تلو الأخرى في مجتمعنا  الموريتاني؟ وهل المتغيرات الجديدة  للتطور الاقتصادي  الواعد  بعد تصدير الغاز، والزيادة  السكانية غير الطبيعية جراء الهجرة،  ستؤديان إلى تطور في البناء الاجتماعي، أو ستحدثان حتى  تأثيرات وظيفية في النظام السياسي، ونحن نشاهد استمراءها  لتفريخ الأحزاب الديمقراطية المستوردة لشرعنة النظام الشمولي في شكل جعلهما  “مركبا سياسيا” من نقيضين، وتأقلمهما مع  النظام  الاجتماعي القبلي الجهوي، الفئوي، العرقي..؟!

لعل  السؤال في  عنوان المقال،  محوريا، وحري بالبحث،  لذلك  يتهرب الكتاب  من طرحه، والمشاغلة في الإجابة عن الأسئلة الثانوية المتعلقة بالمشكلات الاجتماعية، كلغة التقارير الإدارية، والتعليم النظامي، وعلاقتهما بالهوية الثقافية للمجتمع، والتعامي عن طغيان نفوذ  التعليم الخاص،  وغياب الفاعلية  في مجال الطبابة في المشافي العمومية، وغيرها  العديد من الموضوعات القابلة للإثارة  في كل حين،  كحوادث السير، وعلاقتها باختلال النظام الفرعي الخاص بالطرق، وغياب السلطة القائمة عليها،، ولعل هذه  من الموضوعات الاستثنائية التي تثيرها أقلام الكتاب” الوظيفيين” رغم قيمتها النسبية  في التوعية، غير أن ذلك لا يخفي  هامشيتها نظرا لزاوية  نظرها المحدودة  التي لا تعكس الموضوع العام، وما يطرح في هذا المجال، وأقله التحديات التي تتعلق بتقسيم العمل، وعدم قيام الانظمة السياسية السابقة بالتزاماتها تجاه مصير الفرد في المجتمع المدني، والقروي، وحقوقه المدنية قبل السياسية، وقد استولى عليها فرقاء الدعاية السياسية من احزاب تلميعية  لوجه النظم السياسي الحاضر  الغائب معا  في سيميائه، وافعاله المنتظرة ، وسيبقى الفرقاء  يقومون باطراء معبودهم، واعطائه من الصفات ما يجعله في مظهره الجذاب” أرجوانيا “على حساب رمادية الوطن، وانسراب هويته، حتى على مستوى الحراك السياسي الحديث  بالنظر إليه في المجتمعات المجاورة، بينماعندنا لم يصل الحراك السياسي  إلى المطالبة بالتحديث الذي يستحق به ولاء المواطن، والانتماء له، والانخراط في مشروع مستقبلي بدلا من ولاء الحراك للنظم السياسية على قاعدة (( كأنما الدين ضرب من متاجرهم، إن واظبوا راحوا، وإن اهملوا خسروا،،))، فسوء ” التكيف” في  الأداء الوظيفي، هو المظهر المجسد للمصالح المشتركة بين انظمة الحكم، واعلامها  الحزبي بمختلف تلاوينه في  الحراك السياسي الوطني  منطلقا، والمدافع غاية عن مصالح الفئة، والجهة، والقبيلة، والعرق…

لذلك لا  وقت، ولا مجال للبحث  في مظاهر المجتمع الحضري، والنمو العمراني ، وقوننة  لحقوق الأسرة، والعامل، والخريج في العمل، وحماية الطفولة، وزيادة الوعي بأهمية البيئة الحضرية، والتوجه نحو الاكتفاء الذاتي بالتفكير الجاد لاستحداث إصلاح زراعي، وحماية العمران    بتسوير الشواطئ المحاذية للأحياء السكنية وقاية  لأهلها من الغرق في أول عاصفة بحرية.

والموقف المؤجل للحد من هجرة المجتمع القروي، والمدني  معا، وكذلك  إقصاء دراسة عوامل الانتقال من المدن  الهامشية، أو الفاقدة لكل عوامل الاستقرار فيها نظرا لعدم توفير الشروط التي  تجعل ساكنتها غير معلقة الآمال للهجرة منها إلى مناطق الاستقطاب المحدودة  في اتجاهي العاصمتين: السياسية، والأقتصادية.

لذلك لن تجد  كتابة للتوعية في المواقع المحجوزة بمقالات الكتاب الذين يعرضون انفسهم للتوظيف، أو للترقية، أو للدعاية المدفوعة مسبقا للمدونين، وهم النشطاء السياسيون وليس لديهم الوقت الكافي لتوزيع ولائهم  بين المصالح الذاتية، وبين الواجب الوطني لكل  هذا،  فلا وقت للناشط السياسي  لاستكناه العوامل الفاعلة  التي تنطلق من فرضية “التغيير الاجتماعي ” في بلادنا،  ولا التصويب  لاتجاه  التغير اجتماعي  لأنه بلا اتجاه استحداثي  لأنظمة  البناء الاجتماعي بعد أن “حجز” الأخير النظام السياسي خلال عمره الستيني  في زوايا التخلف الاجتماعي  جيلا بعد جيل، فيما خلت القرون على الفرد، وهو  يراوح  – في مجتمعنا  –  بين الانتماء للوطن في حالة التطور،  والانتماء للقبيلة في حالة التخلف السياسي..!

بينما يتم  تضخيم  التحديات  الخارجية، وذلك للفت الأنظار نحوها بدلا  من الداخلية،، الأمر الذي من شأنه، أن  يعطل ديناميات التغير الاجتماعي،  ودوره المتوقع  في إعادة تركيب البناء الاجتماعي العام،  أو ترميمه غائيا بقوى التغييرالفاعلة، خلافا للتعايش القهري منذ فترة الجفاف في أواخر ستينيات القرن الماضي.

والسؤال الذي يبحث عن جواب ، هو : هل  أعدت دراسات اجتماعية،  استحضرت  مؤشرات التغير الاجتماعي، وتطوراتها، ولو أنها  بطيئة، أو أن الحاصل ميدانيا، هو  تهميشها، ولكن لمصلحة من ؟!

ثانيا:

إن العديد من الكتابات التراثية، وبالخصوص كتاب ” الإشارة في تدبير الإمارة”، غاب الحديث  فيه عن نسبة الإمارة الى أمراء ” لمتونة” ، كما كان قبل تأسيس نظام حكم ( المرابطون ).

ف” الأسشارات”  التعليمية، كانت موجهة  للأمير، وذلك لتأهيله لحكم الإمارة  دون تحديده بالاسم، وكذلك علاقة الوالي بالرعية، وحقوق الجند في الرواتب، حتى ولو انهم كانوا من المتطوعة، وتلك من المؤشرات المرجحة لانتهاج أسلوب تقسيم العمل، والتزام النظام بحقوق الفرد، والمجتمع معا،، واستحضار الالتزامات التي يختار على أساسها “المستشار”   على أساس الكفاءة، والحيادية بعيدا عن الولاء، والقرابة للأمير، أو الوالي ..

فهل يمكن اعتبار هذا التأسيس للعلاقات العامة، مظهرا  دالا على التطور الاجتماعي  حينئذ، لكونه   مثل نقلة نوعية في تفكيك  البناء الاجتماعي  السابق على تلك المرحلة،، وبالنظر كذلك  إلى تحديد هوية المواطن بنظامه السياسي” المرابطون” بدلا من انتمائه القبلي “اللمتوني”، أو” المسوفي” أو غيرهما..؟

بينما يلاحظ مؤشر انخفاض المنحنى إلى خط القاعدة للتطور السياسي الذي، حصل  بعد تلك الفترة الموسومة بتيارات ” النهضة ” العربية الأولى  التي ترسخت على عهدي  (المرابطون)، والموحدين في المغرب العربي…

ومن مظاهر التغير اللاتطوري، الأرتكاسي ذلك التغير الذي حصل على  هوية الفرد بانتسابه  للهويات الفرعية في البناء الاجتماعي، على أساس الرجوع إلى تحديد هوية الفرد بقبيلته، لا بمدينته، أو بوطنه..  ولنأخذه مثالا باعتباره “عينة” ممثلة ، لا ” حالة” فردية، كأحد العلماء  البارزين حينئذ الذي  قام بنفيه  جيش السعديين،  إلى مراكش في القرن السابع عشر، ولعل ذلك عبر عن غياب النظام السياسي، والرجوع إلى الولاءات  الفرعية.

كما لوحظ  تاليا في القرن الثامن عشر، استعادة الهوية السياسية بدلا من القبلية في  كتاب ” الولاتي”، وعنوانه ” فتح الشكور في تراجم علماء تكرور”،  وكانت ترجماته للعلماء خالية من التركيز على انتماءاتهم الفرعية، وإلا كان ذكرها في البناء الاجتماعي  القبلي. إن دلالة تغييب ” الولاتي” رحمه الله تعالى للهوية الاجتماعية، واحلال محلها هوية نظام  ” تكرور ” في العنوان الدال،  يعد تطورا سياسيا، طرأ على النظام العام  في البناء الاجتماعي من جهة انتساب الفرد للنظام، لا  للبناء العائلي، الأمر الذي يمثل تحولا  كبيرا لحظتئذ، والآن لو استؤنف.

بينما ساد في القرن التاسع عشر نظام الإمارات الأربع  ذات الهوية التحالفية اسميا، القبلية في البناء الاجتماعي من خلال نسبة كل إمارة إلى قبيلة، وتحالفاتها البينية الداخلية…

وفي الوثائق الفرنسية التي تم تداولها مؤخرا بفضل جهود الباحثين الموريتانيين المتميزين، إذ  سجلت  أن الفرنسيين عمدوا  الى ابرام الاتفاقات، لتوطيد علاقاتهم مع الأمراء ، ورؤساء القبائل ذات النفوذ، وتأمين المصالح الفرنسية في  المبادلات التجارية مع المجتمع، بتسهيل  الاستراد من فرنسا،  والتصدير إليها الثروات المحلية، كالصمغ العربي، والثروة الحيوانية،،  وخلال تلك الفترة حصل توظيف البناء الاجتماعي القبلي، والتأسيس لعلاقات التبعية، واستمداد سلاسلها حول عنق النظام السياسي بشيطان الشلة المسهلة لخنق الوطن الغالي…

والسؤال الذي، يحمل جوابه أكثر من غيره، هو هل اختلف  التعامل مع البناء القبلي، أو إعادة النظر في توظيف الأخير  منذ الاستقلال إلى  وقتنا الحالي، عما كان عليه سابقا على عهد الاحتلال الفرنسي؟

لعل تواضع قادة انظمة الحكم منذ اربعة وستين عاما  في تشكيل الحكومات السياسية على أساس الانتماء  القبلي، والجهوي، والولاء الحزبي، او للشخص المتنفذ، الأمر الذي  يوضح إلى حد كان النظام السياسي تابعا للبناء الاجتماعي القبلي بدلا من أن يكون الأول قائدا، لاستحداث، و”تشكيل” الانظمة الاجتماعية..؟

وهذا التقليد سواء حصل بهدف مراعاة التوازن الذي كان قائما على عهد المحتل الفرنسي السابق، أم نتيجة لسياسة  الرئيس الراحل المرحوم المختار ولد داداه علما، أن الكثير من المثقفين من  جيلي من غير التابعين للأنظمة السياسية، ولكن الاستقلالية في التفكير لم تحرر وعيهم  من تأثير” كاريزمية”، المختار،  كأول رئيس رغم  أن الجميع  مطلع على قرار الجمعية الفرنسية  باعطاء الاستقلال لمستعمراتها، بهدف سد الذريعة، والحيلولة دون قيام ثورات تحريرية  ضد الاحتلال الفرنسي في موريتانيا، و اقطارنا الافريقية الأخرى؟

وهنا يتنازع التأريخ للقرار الفرنسي، مع الولاء  لنظام١٩٦٠، في الاعترافات المعبر عنها  من حين لآخر في الدعاية على وسائط التواصل الاجتماعي، كالنبش عن المآثر للحنكة السياسية للرئيس المؤسس، لكن هل كان الولاء  سيتزعزع  لو أن  “ولد حرمة” رحمه الله تعالى،  لم يؤيد الثورة  الجزائرية في اجتماعات الجمعية الفرنسية، ولم يظهر خلافه مع الفرنسيين، وتلا ذلك التهديد بالمواجهة العسكرية، ثم أليس  اقصاء الفرنسيين لحزبه، يعتبر  كافيا للتأثير الإيجابي الذي كان سيحدثه حضوره السياسي ؟

ولنفترض،أنهما اتفقا – ولد حرمة، و  المختار، وأبان الأخير عن حنكة تاريخية غير التي يروج لها ” رجعيا” خدمة  لمصالح  الحزب الحالي –  ووحدا نضالهما، وأدى ذلك على الأغلب  إلى  انتخاب ولد حرمة رئيسا لموريتانيا، الأمر الذي كان سيؤدي إلى أن يصبح المختار، الوزير  الأول –  وقد يصبح رئيسا منتخبا في فترة لاحقة لو نجح –  باعتبار أن  المترجمين، والمعلمين، أصبحوا وزراء، وخضع التوظيف للتوازنات  القبلية، والمناطقية، وهي التوازنات المأثورة  حاليا وحتى في المستقبل المنظور..

لذلك يمكن توقع أن عدم اقصاء قادة حزب النهضة، كان سيوسع  دائرة الحراك السياسي الوطني، ويسرع بالتالي بالتغيير السياسي، وتواصل مساراته  في ظل سياسة أنظمة الحكم التالية على غرار الجانب السلبي لعجزها  إزاء البناء الاجتماعي القبلي، وأحباطه  المتكرر لكل مظاهر التطور التي ستبقى المضمون الذي جعل النظام السياسي  قروسطويا، ويتبادل مع   البناء الاجتماعي  القبلي العام، اقصاءهما لمجتمعنا، مضافا الى ذلك عجزهما المريع عن مواجهة  التحديات الداخلية كسبب، و التحديات الخارجية كنتيجة بالضرورة..؟

د/ إشيبو ولد أباتي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى