السياسي الموريتاني أحمد ولد هارون: فكرة الإنقلاب السياسي مطروحة بعد أن سلم رموز النضال الراية لنظام لم يصلح نفسه…مقابلة
إنه السياسي الموريتاني أحمد ولد هارون صاحب الرؤية السياسية القائمة على رهانات ثلاثة أولها نشر حالة من الوعي بدواعي التغيير المُلِحَّة، وثانيها الوعي بضرورة مراجعة المنظومة السياسية الموريتانية السائدة منذ 1991 بعد أن وصلت إلى طريق مسدود، والرهان الثالث يتمثل في خط سياسي جديد يمكن للمجتمع أن يستثمر فيه ويعلق عليه آماله.
حاورته «القدس العربي» حول موضوعات عديدة تتقدمها ثورة طوفان الأقصى وانعكاساتها، وعن حركة «حماس» المتصدرة في المعركة، وجالت معه في عمق التطبيع العربي مع العدو، وتوقفت في حوارها معه حول الأوضاع في موريتانيا، والحالة في منطقة الساحل.
وهذا نص الحوار:
○ نبدأ بالحدث الأكبر الشاغل حاليا للأمة، بل للعالم أجمع، ألا وهو طوفان الأقصى: نتجاوز الوضع المأساوي المعروف الذي خلفه تقتيل العدو الصهيوني للأنفس وتدميره وفساده لما فوق الأرض، إلى محاولة استقراء المستقبل: ما هي نظرتكم لمستقبل هذه القضية؟ وتفاعلاتها وانعكاساتها على العرب وعلى العالم؟ وأية نهاية تتصورونها لها؟
• مستقبل القضية الفلسطينية هو الانفراج ثم الحل الجذري العادل، شأنها في ذلك شأن كافة القضايا العادلة الواضحة المظالم والمعالم. قد يكون الثمن باهظا والألم فظيعا. وهل وقع في التاريخ انتصار عظيم بدون تضحيات عظيمة وآلام فظيعة؟ والآلام ليست، على كل حال، من جانب واحد.
وإذا ما تركنا القتل العشوائي والتدمير جنبا، وبحثنا لإسرائيل – ولو نظريا – عن مخرج من مأزق غزة الواقعة فيه حالا، سيصعب عليك إيجاد حل واحد لها، عسكريا كان، أو سياسيا، أو دبلوماسيا، أو أخلاقيا. لقد اكتشفت إسرائيل، والعالم من بعدها، أنها ارتكبت خطأ كبيرا بدخول هذه الحرب وانتهاج هذا النهج. فلو أنهم قاموا بسلسلة عمليات نوعية محَكَّم فيها لكان أفضل لهم بكثير وأقل ثمنا.
فحتى لو قتلت إسرائيل – لا سمح الله – مئة ألف شخص، أي ما يفوق قليلا نسبة 4 في المئة من عدد سكان قطاع غزة، ودمرت جميع البيوت والبنايات، لا يُعَدُّ ذلك أبدا انتصارا لها، لا داخل إسرائيل ولا خارجها، هذا مع الثمن، أو الأثمان الباهظة التي ستدفعها في الحين وعبر الزمن. وقد فتحت عملية طوفان الأقصى وما تلاها نقاشا عالميا جادا لم يكن من قبل مفتوحا حول القضية الفلسطينية. والوعي البشري، كما هو معروف، لا يتراجع، وإنما يزداد في عمومه ويتطور.
أما على المستوى العربي، فأرى أن الهزات الارتدادية للصدمة لم تبرز بعد، ولا أحد يمكنه التنبؤ بالصورة التي ستبرز بها للساحة، وأقل ما نتوقعه من ذلك هو إسهامها، بفاعلية وسرعة، في تغيير العقليات وإحداث برمجة ذهنية جديدة، وتبادل جيلي أسرع.
عندنا في التاريخ القريب نزاعات وقضايا بدا لأزمنة طويلة، أنها غير قابلة للحل والتغيير، ثم انفرجت فجأة وحُلَّت في نهاية المطاف حلا نهائيا. والمثال الأقرب إلى القضية الفلسطينية، هو قضية الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث ظن الجميع أن نظام الأبارتهايد قوي وأبدي. لكن المقاومة الداخلية والضغوط الدولية أديا، مع مرور الوقت، إلى إنهاء ذلك النظام وإحلال نظام ديمقراطي محله، دون اضطراب أو انتقام.
وغير بعيد من ذلك اتفاق الجمعة العظيمة، الذي توصلت من خلاله أطراف النزاع في أيرلندا الشمالية، سنة 1998 إلى السلام وتسوية سياسية لإنهاء صراع عنيف وطويل.
○ تتصدر حركة «حماس» المحسوبة على الإخوان، قوى المقاومة الفلسطينية، وتخوض الحرب وجها لوجه مع الصهاينة، ومن ورائهم الغرب، خاصة الولايات المتحدة. وتواجه هذه الحركة في نفس الوقت رفضا من بعض الأنظمة العربية، فكأنها بين مطرقة وسندان. كيف تنظرون لتطورات ومستقبل هذا الجانب المهم من الصراع؟
• لا جدال في أن حركة حماس تحسَّنت صورتها وصعدت شعبيتها إلى أعلى مرتبة يمكن تخيُلها، لا في فلسطين فحسب، وإنما في العالمين العربي والإسلامي، بل في مناطق أخرى كثيرة من العالم، هذا لا مراء فيه. فالشعوب لا تكترث للتصنيفات الأيديولوجية والقانونية، ولا تنظر وقت المعركة إلا إلى الميدان، وميدان المعركة لا وجود فيه، لحد الساعة، إلا لطرفين اثنين، لا ثالث لهما: حماس وإسرائيل. هذا هو الواقع، وهو الراسخ في أذهان الناس. حتى إسرائيل نفسها راسخ في ذهنها، وليس مستبعدا أن تُراجع، مع مرور الوقت، نظرتها للواقع ولِخصمها اللدود، حركة حماس! ومن يدري؟ قد تتفاوض إسرائيل، في الوقت القريب أو المتوسط، مع حركة حماس، وبشكل مباشر. وقد تتعامل معها الند بالند، على أساس ما ستفرزه المعركة وموازين القوى والمفاجآت من واقع جديد، وعندئذ، ستتغير نظرة الغرب للحركة، وكذلك نظرة الشرق، هذا في حال ما لم تبرز شرعية ميدانية أخرى.
من كان يتوقع إلى وقت قريب أن حركة فتح وإسرائيل ستجلسان علنا على طاولة المفاوضات وتتفاهمان على تسوية ما؟ ومن كان يتوقع سلاما وتنازلات كبرى متبادلة بين السادات وبيغن؟
○ ما هو رأيكم حول ظاهرة التطبيع العربي مع إسرائيل؟ وهل هي متجهة نحو الانحسار بعد ما اقترفته إسرائيل من جرائم؟
• موجات التطبيع، كما هو معلوم، ثلاث، والرابعة وَأَدَها طوفان الأقصى وَأْدًا. أما الموجة الأولى، فإنها أتت على خلفية حروب ونكسات معروفة، كان آخرها حرب 67 وحرب 73 وما تلاهما من اكتشاف العرب قوة الدعم الأمريكي لإسرائيل، ومحدودية الدعم السوفييتي للطرف العربي، وما تبين في خضم ذلك من تفوق إسرائيل في مجالات عسكرية حاسمة، كسلاح الجو، والسلاح النووي.
كذلك، تزامنت الموجة الثانية مع سقوط المعسكر الشيوعي، وتفرد الغرب بالصدارة العالمية، وضرب العراق أثناء ذلك وغزوه.
ثم جاءت الموجة الثالثة من التطبيع، بقيادة دول خليجية، كالإمارات العربية المتحدة، والبحرين. وما إن اقتربت الموجة الرابعة من شواطئ دول عربية أخرى، لعل السعودية أبرزها، حتى فاجأها طوفان الأقصى وقضى عليها.
وبخصوص المستقبل المنظور، سيكون من الوارد في ظل ثنائية قطبية جديدة تقودها الصين وروسيا، وتدعمها دول أخرى صاعدة، مثل البرازيل وتركيا والهند وجنوب أفريقيا، أن تتعدد الخيارات أمام الدول العربية بخصوص التطبيع وشكله وتوازنه.
○ كيف تنظرون إلى التفاعل الموريتاني مع الطوفان؟ وإلى تفاعل شعوب أفريقيا معه؟ وكيف سيكون انعكاس ذلك على الاختراق الصهيوني للقارة؟
• الشعب الموريتاني، كغيره من الشعوب العربية والإسلامية، والعالمية أيضا، تفاعل بقوة مع القضية، وتألم كثيرا لما حدث. وقد عبر عن ذلك بالمظاهرات والكتابات والخطب والتبرع. وكذلك النظام الحاكم، فإنه أتى بما يفوق المتوقع منه؛ وقد ساعده في ذلك – على ما أرى – موقف النظام السعودي، الذي يبدو أن النظام الموريتاني جاراه في موقفه من طوفان الأقصى، كما كان سيجاريه قبل ذلك – على الأرجح – في التطبيع. ولا أظن أن موريتانيا كانت بدعا في ذلك من الدول العربية والإسلامية المترددة حيال ما تواجهه من ضغوط بخصوص التطبيع. فأغلب تلك الدول يقتدي في هذا الصدد بالمملكة السعودية بوصفها الدولة الإسلامية الأبرز والأكثر محافظة، ففي مجاراتها إذاً شيء من رفع الحرج عن بعض الأنظمة.
أما أفريقيا، فإن موقف النخب والجماهير فيها كان أكثر حماسا من موقف الحكام الذين انقسموا في الأمر قسمين متباينين. ولا شك أن مبادرة جنوب أفريقيا القوية الأخيرة سيكون لها ما بعدها، ولا أتوقع أن تقتصر مساعيها على الجانب القضائي وطرح القضية في أروقة محكمة العدل الدولية، وإنما أتوفع أن تلي ذلك معركة دبلوماسية.
○ وصولا لموريتانيا: دعوتم في آخر بث مباشر لكم إلى «انقلاب ديمقراطي» بالتوازي مع التقدم بملف الترخيص لحزب سياسي: ما هو الأمر الذي جعلكم تتجهون هذا الاتجاه؟ وما هو برنامجكم؟ وما الذي يميزكم عن التجارب الكثيرة التي عرفها المشهد السياسي الموريتاني منذ 1991؟
• فكرة الانقلاب السياسي تطرح اليوم نفسها علينا. لم يبق عندنا من خيار ما دمنا نرى جيلا كاملا من دعاة التغيير ورموز النضال يسلم الراية لنظام سياسي لم يصلح نفسه في المأمورية الأولى ويريد إصلاح موريتانيا في الثانية! أما برنامجنا السياسي، فيتلخص في السعي إلى تحرير البلد من براثن أقلية تختطف الدولة والمجتمع والمقدرات والأصوات. ورهانات التغيير السياسي تتلخص اليوم – في نظرنا – في ثلاثة: أولهما، استيعابنا جميعا لخطورة الوضع ودواعي التغيير الملحة، من عجز السلطة والنخبة السياسية، إلى مخاطر الانهيار والفوضى المطلقة، لا سمح الله. والثاني، هو مراجعة الأشكال والمفاهيم السياسية السائدة، ونظام الحكم القائم منذ 1991 والذي أصبح ضارا بالدولة والمجتمع، وصار يلتهم نفسه وأعوانه قبل خصومه. أما الرهان الثالث، فهو خط سياسي جديد، يمكن للمجتمع أن يستثمر فيه ويعلق عليه آمالا.
○ هل يمكن أن تشرحوا لنا رؤيتكم للوضع الحالي والمستقبلي لموريتانيا؟
• الوضح الحالي خطر – للأسف – وخال من المبادرة المتناسبة مع تلك الخطورة، ويمكن تلخيصه – إن أردتم ذلك – في حكامة سياسية واقتصادية وانتخابية ضعيفة. ولا شك أن الانتخابات الرئاسية المقررة في صيف 2024 ستكون بمثابة استفتاء على تقرير مصير البلد.
○ ما السر وراء معارضتكم المشددة لنظام ولد الشيخ الغزواني مع أن بعض المستقلين في الداخل وأوساطا عدة في الخارج يعتبرون عهده «مرحلة متميزة هادئة» تناسب موريتانيا في ظل الظرف العاصف على جميع المستويات؟
• ربما يكون عدم وجود معارضة لهذا النظام هو الذي جعلها متعينة حتى على من لم يظهروا من قبل في الساحة السياسية، ذلك ما جعلها فرض عين. فالمعارضة قبل 2019 كانت قوية وحاضرة، لكنها اختفت دون مبرر مستساغ مع مجيء النظام الحالي، مع أنه لا علم لي بتشدد أو تجاوز أو إفراط بدر مني تجاه النظام، بل إن معارضة الأمس المهادنة اليوم للنظام الحالي، كانت معارضتهم أكثر راديكالية وحدة في عهد محمد ولد عبد العزيز وعهد معاوية ولد الطايع.
أما بخصوص ما يطلق عليه في أدبيات هذا العهد التهدئة السياسية، وسميتموه أنتم مرحلة متميزة هادئة، فإننا لم نلمس منه في الواقع إلا شيئا واحدا، وهو نجاح هذا النظام في اختراق المعارضة التاريخية، وأغلب منافسيه في الانتخابات الرئاسية الماضية. لكن ما الذي استفادته موريتانيا من تهدئة ذاتية وتقاربات شخصية، بعيدة من أي اتفاق مؤسس على رؤى واضحة ومواقف وخريطة طريق؟ لم نر إلا بعض الاستقبالات البروتوكولية وإسكات سياسي هنا، وإعلامي أو مدون هناك.
وقد قلت سابقا إننا أدركنا متأخرين المعنى الحقيقي لهذه التهدئة، وهو السكوت عن الفساد، وموت العمل السياسي والحزبي والبرلماني، والالتفاف على الحريات العامة وحق التحزب، إلخ.
إن من أكبر مآخذنا على هذا العهد، أنه يهتم بإسكات وجيه أو معارض أو مدون أكثر من اهتماماه بإصلاح التعليم مثلا، أو الصحة، أو النقل. لم يتم في هذا العهد إنهاء ملف واحد هام، أو تحقيق مشروع كبير. كما أننا لم نشهد محاولة جدية لإصلاح قطاع من القطاعات الحيوية الفاسدة، كالإدارة والاقتصاد والسياسة نفسها. والملفات التي تم فتحها لسبب أو لآخر، جاء فتحها بنتيجة عكسية، وصارت مأزقا للنظام والمجتمع والعدالة، ومستنقعا للتناقض والانتقاء والاستهداف الشخصي، بدل أن تكون رافعة سياسية وإحقاقا للحق ومحاربة لظواهر سيئة منبوذة، وأحسن مثال على ذلك ملف العشرية ومحاربة الفساد، هذا مع انعدام الشفافية وغياب شبه تام وغير معهود لرئيس الجمهورية ورئيس حكومته عن المشهد ومخاطبة المواطنين.
○ كيف تنظرون للانتخابات الرئاسية المقبلة التي يصفها البعض بأنها «محسومة سلفا» والتي انتقد حزب التجمع المنظومة المعدة للإشراف عليها وتنظيمها؟ وهل ستترشحون فيها للرئاسة؟
• المنظومة الانتخابية المشرفة على انتخابات الثالث عشر أيار/مايو الكارثية، لم تتغير، على كل حال، قيد أنملة. وما نسعى إليه هو تحسينها وخلق تعبئة سياسية وجماهيرية لفرض مستوى من الحكامة الانتخابية وحماية أصوات الناس. وعندما يتحقق ذلك، فإن الفراغ كبير يستدعي منا جميعا المشاركة في ملئه.
أما قولهم وشعورهم بأن الانتخابات محسومة، فهو مؤسس على أمرين: أولهما تحكم النظام في المنظومة المشرفة على الانتخابات، والمسلسل من ألفه إلى يائه. والثاني، هو عدم وجود معارضة قادرة على التعبئة ومنافسة السلطة، وعدم بروز مرشح يملك من الوسائل اللوجستية ما يحرك به الشارع ويستخدم السخط الشعبي الهائل ضدهم. وهذا غلط كبير، لأنه مؤسس على ذهنية قديمة تجاوزها الزمن، والمعطيات الحالية، النابعة من حالة جمود مؤقتة يمكن كسرها في أي وقت.
○ ما هو موقفكم من الميثاق الجمهوري الذي وقعته الحكومة مؤخرا، مع الحزب الحاكم وحزبين رئيسيين في المعارضة؟
• قبل أن أحدثكم عن موقفي من الميثاق، أود القول إني لا أستبعد موت هذا الميثاق قبل ميلاده، وذلك لعوامل ذاتية، أكثر منها موضوعية، مثل الحالة الصحية للرئيس أحمد ولد داداه، شفاه الله، وما ينصحه به طبيبه الخاص مؤخرا من تجنب كل إعياء وإجهاد للنفس. ومن المعلوم أن الميثاق مؤسس على شخصيات وطنية وسياسية بارزة، لا على برامج أو رؤى أو تمثيل شعبي. والرئيس أحمد هو الأبرز من بين تلك الشخصيات، وعدم حضوره كفيل بالقضاء على الميثاق، قبل ميلاده، أو في مهده.
أما موقفي الموضوعي من هذا الميثاق، فقد طرحته من قبل على شكل أسئلة: ما الذي جدَّ بين انتخابات الثالث عشر أيار/مايو 2023 تاريخ الانتخابات التشريعية والبلدية والجهوية التي اتفقت المعارضة على تزويرها، وبين 21 أيلول/سبتمبر تاريخ توقيع الميثاق الجمهوري من السنة نفسها؟ وما الذي جد بعد الحوار، أو التشاور، الذي سبق ذلك بعام، وقضى عليه النظام، من جهة واحدة، وبشكل مفاجئ ومهين، أواخر مايو 2022؟
ألم يقولوا إن النظام زور الانتخابات التي أتت بالسلطة التشريعية الحالية والمجالس البلدية والجهوية، والخريطة السياسية القائمة؟ أليست المنظومة الانتخابية هي نفسها، من لجنة مستقلة للانتخابات، ومجلس دستوري، ووزارة الداخلية، والإدارة، والحالة المدنية؟
○ موريتانيا مقبلة على عصر الغاز، ما هي نظرتكم لهذا العصر الذي يستبشر به الكثيرون؟
• تلك فرصة أخرى ثمينة نخشى ضياعها، والسبب هو ضعف الحكومة، وجمودها التام، وعدم مسؤوليتها وأهليتها لتسيير الدولة واستقبال هذا الريع الثمين. إنها حكومة خارج الطابور.
إن دولة مثل موريتانيا، تستعد لأول مرة لاستغلال كميات هامة من الغاز الطبيعي، تحتاج أكثر من أي وقت سابق للحكمة والإرادة والعمل الجاد المنظم. ونحتاج قبل ذلك كله لحكامة اقتصادية ومالية واجتماعية مغايرة. وقبل ذلك كله، إلى حكامة سياسية. وقد أحسن السوسيولوجي الفرنسي، بيير بورديو حين قال «إن تغيير حياتنا، يبدأ بتغيير الحياة السياسية».
إن من أبرز ما نحتاجه، ونحن مقبلون على استغلال الغاز، هو في نظري البنية التحتية، أدنى مستوى من البنية التحتية. فمما لا يخفى على أي موريتاني أو أجنبي زارنا، هو الحالة الفظيعة التي عليها بنيتنا التحتية. وقد أحسنت النرويج حين استخدمت عائداتها الأولى من النفط بشكل فعال لتطوير البنية التحتية، من طرق ومواصلات عامة، ومرافق صحية وتعليمية. كل هذا مع سياسة طويلة الأمد للادخار والاستثمار، والحكامة الرشيدة والشفافية ما ساعد في الحد من الفساد وضمان توزيع الثروة بشكل عادل.
أين نحن من هذا؟ بل أين نحن من جارتنا السنيغال وشريكنا في استخراج الغاز؟ لم نشاهد ولم نسمع أي مسعى جدي لتأمين الخبرات التقنية والمهارات اللازمة لإدارة هذا الريع الثمين، خلافا لما سمعنا ورأينا في السنيغال. أين الإصلاح الإداري والمالي؟ وأين الإطار التشريعي والقانوني المحيَّن الذي يضمن الاستغلال الأمثل والمستدام للموارد الطبيعية؟ وأين الشفافية والحكامة الرشيدة الضرورية لإدارة عائدات الغاز؟
ناهيك عن تطوير السياسات والمعايير اللازمة لحماية البيئة من الآثار السلبية لاستخراج هذا النوع من الغاز الطبيعي المعروف بقوة إضراره بالبيئة.
أين التدريب وتطوير مهارات القوى العاملة المحلية لتمكينها من المشاركة بشكل فعال في هذا القطاع؟ وأين الاستثمار في التنمية المستدامة؟ وأين تبادل الخبرات مع الشراكات الدولية والإقليمية الكبرى؟ وأين جذب الاستثمارات؟
لقد كان من المفروض في سنواتنا هذه السابقة لبدء استغلال الغاز، أن نرى الاستثمارات متدفقة على موريتانيا من كل نوع ومن كل حدب وصوب، لكن شيئا ذلك لم يحدث، والسبب هو المناخ الاستثماري الملوث.
○ توجد موريتانيا بين أزمتين قديمتين مستعصيتين هما الصحراء الغربية وأزواد: ما هي نظرتكم إلى هذين الملفين وأين يجب أن يكون تموقع موريتانيا فيهما؟
• كان متاحا لموريتانيا، وواجبا عليها، أن تكون الفاعل الدبلوماسي المركزي في هذين الملفين، خصوصا بعد حدوث انقلابات عسكرية في عامة دول الساحل الأخرى، لكن ذلك لم يقع كما ينبغي، وإنما اختفينا اختفاء شبه تام على كل المستويات والمنابر. كان من واجب موريتانيا، الواقعة في قلب ملفين إقليميين معقدين، مثل ملف الصحراء الغربية وملف أزواد، أن تتعامل مع الأمر بمنظور متوازن يركز على ثلاثة جوانب رئيسية:
أولهما، الحياد الفعال والوساطة: فكون موريتانيا دولة جارة ذات أراضي شاسعة وشواطئ أطلسية طويلة، يخولها الكثير من التأثير الإقليمي الإيجابي، أن تلعب دور الوسيط المحايد والدائم الحضور في آن واحد.
الجانب الثاني، هو الأمن والاستقرار: فأول ما يجب علينا مراعاته هو ضمان عدم تأثر أمننا القومي واستقرارنا بتطور الأزمات المذكورة وتمددها. وبتطلب هذا دبلوماسية حذرة وحضورا وتعاونا صادقا مع الدول المعنية، والقوى والمنظمات الإقليمية والدولية.
الجانب الثالث، هو التنمية والتعاون: حيث يمكن لموريتانيا استغلال موقعها الاستراتيجي لتعزيز التعاون الإقليمي في مجالات مثل التجارة، والبنية التحتية، والطاقة، والتنمية الاقتصادية، وغيرها مما يعود بالفائدة على الدولة والمنطقة.
○ بعد تفكك مجموعة دول الساحل الخمس، وانسحاب فرنسا والأمم المتحدة من مالي، ألا ترون أن موريتانيا أصبح لها ثقل ودور في أمن واستقرار منطقة الساحل، كما أكد ذلك مسؤولون في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؟
• من المؤكد، كما أشرت آنفا، أن السياق الجيوسياسي الناتج عن تفكك مجموعة دول الساحل الخمس، وانسحاب فرنسا والأمم المتحدة من مالي، يتيح لموريتانيا أن تكون اللاعب المركزي في المنطقة، وأن تعزز دورها في أمن منطقة الساحل واستقرارها، وذلك لأسباب عديدة، أهمها الموقع الجغرافي.
فزيادة على وقوع موريتانيا في عمق المنطقة الاستراتيجي والبشري والأمني والإنساني، تتفرد أيضا بشواطئها الأطلسية الطويلة، هذا مع الاستقرار النسبي الذي ما زالت موريتانيا تتميز به لحد الساعة، على الرغم من التحديات. ومن المعلوم أن مستوى معينا من الاستقرار ضروري ومطلوب للعب دور فعال في منطقة غير مستقرة.
كذلك الخبرة في مجال مكافحة التطرف، والتي نوه بها كثير من الدول والمنظمات، وهذا أمر حاسم في منطقة تواجه تهديدات مستمرة من ذلك النوع. أضف إلى ذلك التعاون الدولي، حيث إن اعتراف كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وروسيا بأهمية موريتانيا في المنطقة، يفتح الباب واسعا أمام دعم وتعاون دولي أكبر وأكثر مردودية وتمكينا لموريتانيا.
لذلك، يبدو أن أمام موريتانيا فرصة كبيرة لتعزيز دورها في الساحل، ليس بوصفها عامل استقرار فحسب، وإنما بوصفها وسيطا وشريكا في التنمية والتعاون الإقليميين والدوليين. لكن، كما قلت لكم آنفا، لم تستغل بلادنا حتى الآن الفرصة.
○ يسعى المغرب لجذب دول الساحل إلى برنامج واجهة الأطلسي، وتغيبت موريتانيا عن اجتماع أخير حوله عقد في مراكش: ما هو رأيكم إزاء هذه القضية؟
• لم تتضح بعد حيثيات هذا المسعى الجديد، الذي أرى مستقبله مرهونا على كل حال بتطورات الأحداث، داخليا، في المغرب نفسه، وفي غيره من دول المنطقة، وعربيا ودوليا. والمحيط الأطلسي، كما هو معلوم، رهان استراتيجي قديم ليس لدى الدول المطلة عليه وحلف الشمال الأطلسي وحلفائه فحسب، وإنما هو رهان طبيعي لدى دول أخرى لا تطل عليه، بدءا بدول الساحل، مرورا بالجزائر، وانتهاء بروسيا، صاحبة الحلم الأطلسي الأقدم. وعلى كل حال، ستبقى موريتانيا، بحكم موقعها الجغرافي، وبعدها البشري والثقافي، مؤهلة لدور أكبر في كل رهان أطلسي أو ساحلي أو صحراوي.
○ كيف تقيمون العلاقات الموريتانية الجزائرية المقبلة على تطورات مهمة من خلال المعبر الحدودي ومن خلال اتفاقيات التعاون العديدة التي وقعت العام الماضي؟
• أكبر خطأ يمكن لقوى إقليمية مجاورة، من حجم الجزائر والمغرب، الوقوع فيه، هو إهمال موريتانيا وعدم مساعدتها مساعدة حقيقية صادقة على إقامة دولة مستقرة قابلة للبقاء، وربط علاقات استراتيجية معها، ومن رجع قليلا إلى الوراء سيرى أن القرارات الكبرى والخطرة التي اتخذتها موريتانيا في السبعينات، مثل تأميم ميفرما وإنشاء العملة، كانت العلاقات مع الجزائر وقت اتخاذها جيدة، وقد قامت هذه الأخيرة بمساعدة موريتانيا مساعدة فورية وقوية.
ومن الملاحظ أن العلاقات الموريتانية الجزائرية تشهد تطورات هامة، خصوصًا بعد فتح المعبر الحدودي وتوقيع اتفاقيات التعاون المتعددة. وأهمية ذلك يمكن أن تتجلى وتنعكس على عدة أبعاد، كتعزيز الروابط الاقتصادية والتجارية، وتسهيل المرور عبر الحدود البرية. إضافة إلى التعاون الأمني في منطقة تواجه تحديات أمنية هائلة، ولا شك أن التعاون الموريتاني الجزائري سيسهم في استقرارها، زيادة على ما لتطوير العلاقات بين الدولتين من تأثير إيجابي على الديناميكيات الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بالنزاعات والأزمات المحيطة. ومع ذلك كله، يبقى التوازن بين الاهتمامات الوطنية والإقليمية، والتعامل مع الملفات الحساسة، كملف الصحراء، هو التحدي الأكبر الذي يمكن لموريتانيا مواجهته في علاقاتها مع كل من الشقيقتين الجزائر والمغرب. والسؤال المطروح هنا هو: ما الذي يريده كل طرف من موريتانيا؟ وأين مصلحة موريتانيا في ذلك كله؟ وكيف تطور موريتانيا موقفها ومركزها وتحوله من حياد جامد إلى حياد ديناميكي؟