في بيتنا كورونا / فالح فليحان
ثمة مشاعر كثيفة ضاغطة في الأرجاء، أفكار وهواجس، كانت الصغيرة ذات الأعوام الثلاثة تتراقص وتلهو، لم تعلم أن هناك ما يخفيه القدر، أول ما ظهر كان نتيجتها، إنها مصابة بالفايرس، مصابة بكورونا. النتيجة التالية لأختها، هي أيضاً مصابة..
شعرت بانقباض، كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.. غلبني النعاس، المعركة هنا محسومة والاستسلام يعني التخفيف من عبء الانتظار، إنه انتظار غير منتهي، ثقب أسود، حيث ينكسر الزمان ولا يعود له وجود..
فتحت عيني على اتصال هاتفي، رقم مجهول!
– ألو نعم؟
– معي السيد فالح؟
– نعم، تفضلي..
– أنا الدكتورة فلانة من وزارة الصحة، يبدو أن نتائج الفحص ظهرت، وهي إيجابية، كل أفراد الأسرة مصابون بالكورونا.. نريد الحصول على بعض البيانات من أجل ترتيبات النقل إلى المستشفى أو الحجر الصحي..
– بعد تزويدها بكافة المعلومات، أخذت أفكر؛ ما المعنى في أن يقال (النتيجة إيجابية)، أين هي في الموضوع، لماذا لا يقال نتيجة سلبية على صحتكم، يا لها من مفارقة سمجة!؟
دارت في رأسي العديد من السيناريوهات: ماذا، وكيف، ولماذا، وأين..
لقيت صعوبة كبيرة في طردها، خصوصاً وأنها أرهقتني وجعلت صدري ضيقا حرجا كأنما يصعّدُ في السماء..
لملمت شتات أفكاري المتناثرة، واستجمعت نفسي، ووضعت خارطة إدارة الأزمة المتصاعدة، وأمسكت البوصلة؛ الله سبحانه وتعالى قدر الأمر، وعلي تقبله والتعامل معه..
ليس لدي متسع من الخيارات، هناك بروتوكولات صحية وأمنية مطبقة علي التعاون معها والاستجابة لها.
من فضل الله أن الأعراض بسيطة وليست حادة، وأن تأثيرات الإصابة بالمرض محدودة، وهذا يعني أن الأسرة ستنقل إلى أحد مراكز الحجر الصحي.
وهذا فعليا ما حصل، في اليوم التالي بعد رحلة انتظار ومسير طويل منذ منتصف الليل في حافلة، وصلنا إلى المركز في الصباح الباكر من أول أيام العيد، تم فصل الذكور عن الإناث، ودخلنا إلى غرف العزل..
تذكرت ما قاله فيكتور فرانكل “إن رد الفعل غير الطبيعي إزاء حدث أو موقف غير طبيعي هو رد فعل طبيعي”، لذا احتجنا بعض الوقت كي نستطيع التأقلم مع الوضع الجديد، هذه الحالة الفريدة من الوجود المقيد، والوجود غير الثابت، حيث فائض في الزمان والندرة في المكان..
هاتفي يرن، إنها صغيرتي: بابا أريد ماء، أنا عطشانة..
كنا قد وصلنا للتو، لا نعلم كيف هي الترتيبات، توجهت للعاملين، وناديت: يا سادة تريد السيدات ماءً.
– حسنا سنفعل.
– بعد برهة من زمن، الهاتف يرن من جديد، إنها صغيرتي: بابا أنا عطشانة، أريد أن أنادي لهم الشرطة لأنهم لا يحضرون الماء!
– حاضر، سأذهب إليهم من جديد..
بحنق شديد أخذت ما لقيته من قوارير الماء وذهبت إلى أحدهم:
– يا عزيزي، هل لكم أن تذهبوا بالماء إلى غرفة ابنتي؟
– حسنا، أعدك بأن أعطيهم الماء، وكمية وافرة منه، لا تقلق.
على مضض رجعت إلى غرفتي، ورغم أن الأمر بسيط، وهو متعلق بترتيبات إدارية روتينية، إلا أن شعوراً ثقيلاً بالعجز أتخمني، واجتاحني كسرب طائرات معادية تعيث فساداً وبطشاً في الأرض والسماء..
لم يتلاشى هذا الشعور حتى علمت أن الرجل أوفى بوعده، وقدم إليهم الماء وزيادة..
متنفساً الصعداء، تسآءلت: إذاً هذا الشعور عبارة عن بروفة بسيطة لما يمكن أن يمر به أي محتجز!
في المساء سُمح لنا أن نلتقي من خلف حاجز، كان ذلك على بساطته جميلاً شاعرياً متدفقاً بالعاطفة..
يبدو أن البشر قد كتب عليهم أن لا يشعروا بحجم النعم واللذات التي يعيشونها حتى تصير عزيزة نادرة أو مقيدة..
نعمة الصحة، ونعمة فائض الزمان والمكان، ونعمة الاختيار، ونعمة أن تحضن من تحب وتعانقه، ونعمة أن تستطيع تلبية حاجة بنياتك الصغيرات على بساطتها..
أنهينا اليوم الأول من الحجز، وما زال هناك أيام أخرى قادمة..