عالَم تحميه الحشرات: نمل ونحل ويراعات….
تانيد ميديا : – سِتسكو، من فيلم «مقبرة اليراعات»في رائعة جورج أورويل، «مزرعة الحيوان»، نَصَّ دستورُ الحيوانات الأول بعد ثورتهم المجيدة على أن «جميع الحيوانات متساوية»، قبل أن يَلحق تعديلٌ دستوري بهذه المادة لتصير: «جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواةً من الآخرين»؛ تعديلٌ أتى بعد أن بدأت بذور السُّلطة تطرح ثمارها في نفوس الخنازير التي طال عليها الأمدُ في الحُكم حتى تسرَّبَت إليها الكثير من صفات البشر.
والكثير من البشر يعتبرون بالفعل أن بعض الحيوانات «أكثر مساواةً» من بعضها. منذ قديم الزمان نحن نفضِّل الكلاب والقطط والخيول والبقر على الفئران والأفاعي والعقارب والبعوض. قد يكون المصريون القدماء هم أول مَن استأنس القطط، قبل أربعة آلاف عام تقريبًا. أما الكلاب فقد تكون أقدم أصدقاء الإنسان من عالم الحيوان، إذ يُعتقَد أن أول استئناس لها قد حدث في وسط آسيا منذ أكثر من 16 ألف عام.
وربما كان هذا التفضيل مدفوعًا أحيانًا بأهمية الحيوان الغذائية أو الاقتصادية، لكنه أيضًا قد يتأثر كثيرًا بطباع الحيوان أو حتى ملامحه. نحن نحب الكلاب والقطط لأنها تتفاعل معنا، وتأنس إلينا، وتعتاد علينا، وتحمل عيونُها المعبِّرة مشاعرَها إلى قلوبنا. تمتلك الكلاب -على سبيل المثال- عضلات صغيرة حول أعينها ساعدَتها على التواصل مع البشر والتأثير على عواطفهم من خلال التعبير بنظراتٍ مميزة تشبه نظرات طفل بشري يستجدي اهتمام الكبار ورعايتهم.
لكنها كلها -كما نرى- دوافع تخصُّنا وحدنا ولا شأن لها بالمصلحة العامة للعالَم الطبيعي الذي نحيا فيه بجوار جيراننا من المخلوقات. الطبيعة التي يعتمد بقاؤها على التوازن الدقيق للغاية بين الأنواع الحية كلها، أي كل تلك الحيوانات الأخرى «الأقل مساواةً» التي تسكن الأرض معنا -ومِن قبلنا- ولا تحظى لدينا بنفس شعبية القطط والكلاب.
يقول الدكتور «ديڤ جولسون» في كتابه «أرض خرساء»:
«أخشى أن معظم الناس لا يحبون الحشرات، بل يبغضونها ويخافونها وينفرون منها ويربطون بينها وبين القذارة والعدوى بالأمراض. معظم الناس يشعرون بالرعب من المجهول وغير المألوف، ولهذا فإن ندرة من الناس فقط هم الذين سيتفهمون مدى أهمية الحشرات لبقائنا نحن البشر، وندرة من تلك الندرة هم الذين سيشعرون بقدر الجمال والبراعة والسحر والغموض الذي تفيض به حياة الحشرات. إن رسالة حياتي هي أن أُقنِع الناس بحب الحشرات، أو على الأقل باحترامها».
ثم ينقل ما قاله عالِم الطبيعة الأمريكي «إدوارد أوزبورن ويلسون» عن أن اختفاء جميع البشر سوف يُعيد الأرض إلى توازُنها الغني الذي عرفَته قبل عشرة آلاف سنة، أما اختفاء الحشرات فسوف يُلقي بها في الفوضى المُطلَقة. وينطلق الدكتور «جولسون» في فصول كتابه ليشرح للناس أهمية الحشرات وروعتها.
في السياق نفسه، سنحاول في السطور التالية تسليط بعض الضوء على ثلاث نماذج باهرة من عالم الحشرات: النمل والنحل واليراعات.
بطولة النمل
يتعجب النبي سليمان -عليه السلام- من النملة فيتبسَّم ضاحكًا من قولها، ويتأمل الفيلسوف أرسطو النملَ فيُبدي دهشته من كونه «يعود إلى أعشاشه في خط مستقيم لا تعوق فيه نملة واحدة مسار أختها»، ويتحدث بعض أهل التصوف عن أن مَن يراقب النمل عشرين عامًا يصل إلى الحقيقة. فأيُّ أسرار لانهائية تُخفيها هذه المخلوقات الصغيرة، وتحار فيها تلك العقول الكبيرة؟
ليس النمل بالطبع نوعًا واحدًا، وإنما هناك -على أقل التقديرات- 12 ألف نوعٍ من النمل في العالم. وقد استوطن النمل الأرض منذ 140 مليون عام تقريبًا، أي أنه أقدم مرتين من ديناصورات تي-رِكس الشهيرة التي ظهرت قبل حوالي 70 مليون عام. ولأنواع النمل أسماء عجيبة، منها النمل الرَّصَاص والنمل الأحمر الناري والنمل الفرعوني والنمل الدينوصور والنمل الأصفر المجنون.
نملة فرعونية بين حبات السكَّر. المصدر: ويكيميديا، تصوير جوليان سولتس.
يعيش النمل بأنواعه في كل مكانٍ تقريبًا، من الغابات الاستوائية إلى مطبخ بيتك. ولا تعيش النملة وحدها وإنما في جماعات (أو ممالك) قد تضم الواحدة منها ملايين النمل، تكون معظمها من الإناث العاملات (التي تقوم بمعظم الواجبات مثل الاستكشاف وجمع الطعام ورعاية البيض والصغار والدفاع عن المملكة)، مع عددٍ أقل كثيرًا من الذكور وملكةٍ واحدة في الغالب، يقتصر دورها على وضع البيض ولا تملك -رغم لقبها الملكي وحجمها الكبير- الحُكم على سياسة المملكة، وإنما تقرر العاملات واجباتهنّ بأنفسهنّ، حسب ما تفرضه الظروف المحيطة والمعلومات والطلبات المُتبادَلة مع رفاقها عن طريق مواد كيميائية تُعرَف بالفِرمونات (وهو ما يحدث حين نرى نملتين تتلامسان بقرون الاستشعار).
وإذا كان هناك في العالم الحقيقي «أبطال خارقون»، فإن النمل يستحق اللقب عن جدارة! إذ تستطيع النملة الواحدة رفع أجسامٍ بآلاف أضعاف وزن جسمها. وللنمل حاسة «سمع» حادة للغاية رغم أنها لا تملك آذانًا مثلنا، لكنها تلتقط بأرجلها أدق الذبذبات من أبعد الأماكن. وهناك أنواع من النمل تمتلك القدرة على بناء الجسور بأجسادها لعبور مسطحات الماء، أو السباحة، أو حتى المشي فوق الماء. يمضي النمل في طريقه مهمَا كانت الظروف، ولا شيء يستطيع الوقوف في وجه النمل.
أما «البطولة» الحقيقية فإنها تصلُح وصفًا للدور الذي يلعبه النمل في قصة كوكب الأرض، فهو يُقلِّب التربة فيُهوِّيها، ويلقِّح النبات وينشر البذور، ويتغذى على الكثير من الآفات والنفايات العضوية، ويوفر الغذاء بدوره للكثير من الكائنات الأخرى. ولو اختفى النمل فلن تموت هذه الكائنات وحدها، وإنما سيموت كلُّ ما يعتمد عليها في غذائه وحياته، وسيختل نظام العالم الذي سيمتلئ بالهوام والمخلفات.
نملة محفوظة في الكهرمان منذ حوالي 50 مليون سنة. المصدر: ويكيميديا، تصوير آندرس دامغارد.
ولنأخذ فكرة أخرى عن حجم دور النمل، يمكن أن نستعرض مقتطفات من رواية «النمل» لكاتب الخيال العلمي الفرنسي «برنار ڤيربير» إذ يقول:
«في غضون اللحظات القصيرة التي ستستغرقها قراءتكم لهذه السطور سيولد على الأرض 40 إنسانًا و700 مليون نملة، وسيموت 30 إنسانًا و500 مليون نملة. تمكَّن الإنسان من أن يَسحق ويضع في المتاحف كل الأجناس التي كان بإمكانها أن تأكله. لدرجة أنه لم يتبقَّ غير الجراثيم والنمل، يسببان له القلق (..) وجود البشر ليس سوى مرحلة قصيرة من سيادة النمل المطلقة على الأرض. هم أكثر منا عددًا بما لا يُقاس، لديهم مدن أكثر، ويتبعون أنماطًا حياتية أكثر تنوُّعًا. يعيشون في المناطق الجافة وفي المناطق الجليدية وفي درجات الحرارة والرطوبة التي لا يسع أي إنسان أن يبقى فيها على قيد الحياة. أينما نظرنا يوجد نمل! لقد كانوا هنا قبلنا بمئة مليون سنة، وإذا وضعنا في الاعتبار أنهم كانوا من الكائنات النادرة التي قاوَمَت القنبلة الذرية، فإنهم سيظلون بعدنا هنا بمئة مليون سنة. نحن لسنا أكثر من حادث طارئ لا يتجاوز ثلاثة ملايين سنة من تاريخهم. وإذا هبط سكان الفضاء يومًا ما على كوكبنا فلن يخطئوا أبدًا؛ سيحاولون بلا ريب أن يحاوروهم: هُم أسياد الأرض الحقيقيون».
مِن النحل إلينا، ومِنَّا إلى النحل
تُرى ما الفكرة الأولى التي ستخطر ببالك إذا رأيتَ نحلة؟ هل ستفكر في عسل النحل وحلاوته؟ أم في لدغات النحل ومرارتها؟ هل سيخطر ببالك أن بعض ما يُهديه لنا النحلُ أحلى كثيرًا من العسل؟ وأن بعض ما نجازيه به في المقابل أَمَرُّ بمراحل من اللدغ؟ سنتأمل معًا هذه الخواطر وأسبابها، لكن دعنا أولًا نتعرف قليلًا على النحل.
يعرف العلماء اليوم أكثر من عشرين ألف نوع من النحل، ويقدِّرون أن أول ظهور للنحل كان قبل 130 مليون عامٍ تقريبًا، وليس من قبيل الصدفة إطلاقًا أن أول ظهور لزهور النباتات حدثَ في نفس الحقبة الزمنية، في أوائل ما يُسمى بالعصر الطباشيري (أو الكريتاسي) حين كانت الديناصورات تهيمن على الأرض.
لكن رغم شهرة النحل ومكانته، ووجود سورة باسمه في القرآن الكريم، وتخصيص عِلم -اسمه المِيليتولوچي– لدراسته، إلا أن معظم الناس لا يعرفون عنه الكثير من الحقائق، بل تشيع الكثير من الافتراضات الخاطئة حوله. فقد نعرف أنه، مثل النمل، تعيش بعض أنواع النحل -ومنها نحل العسل- في جماعات لها ملكة، معظمها من الإناث العاملات مع أقلية من الذكور (ذكر النحل يُسمى باليَعْسُوب، وبالإنجليزية «درُون». هل يذكرك اسمه الإنجليزي بشيءٍ ما؟) لكن ما لا نعرفه أن أكثر الأنواع تحيا منفردة.
وقد نظن أن الحشرات لا تمتلك الكثير من الذكاء. لكن العلماء يؤكدون أن النحل يتواصل مع بعضه بالرقص ويستطيع القيام بعمليات حسابية بسيطة وينام ويحلم ويتعلم في أثناء النوم!
ليس كل النحل قادرًا على اللدغ، فأغلب أنواع النحل لا تلدغ، وحتى في الأنواع التي تفعل، مثل نحل العسل، لا تلدغ العاملاتُ إلا في أقصى حالات الدفاع عن النفس أو الجماعة. فنحلة العسل لا تلدغ إلا مرة واحدة، تموت بعدها مضحيةً بنفسها من أجل أهلها.
وليس كل النحل مخطَّطًا بالأصفر والأسود، وإنما هناك أيضًا نحل أسود وآخر أبيض وهناك النحل النجار الأزرق الذي يحفر أعشاشه في الخشب بجسده الكبير المكسو بشعيرات بلون الفيروز، ونحل البستان الأزرق الذي يصمم لصغاره بيوتًا من الطمي وحبوب اللقاح الملونة، ونحل السَّحْلَب الذي تجمع ذكورُه العطورَ ليصنع كلٌّ منها عطرًا خاصًّا بجسده ذي الألوان المذهلة (أخضر أو أزرق أو بنفسجي!) والبريق المعدني الذي يجعله يبدو مثل روبوت صغير يحوم في الهواء.
أحد أنواع النحل النجار. المصدر: ويكيميديا. تصوير تشارلز شارب.
كذلك، ليس كل النحل يصنع عسلًا، وليس كل العسل واحدًا، وإنما تتعدد ألوانه وطعومه وفوائده مع تعدُّد أنواع النحل المنتِجة له، وأنواع الزهور والبيئات التي جاء منها. فهناك عسل زهرة البرسيم وعسل زهور الموالح (كالبرتقال)، وهناك عسل المناحل التي يبنيها البشر والعسل البري الذي يأتي من حقول الطبيعة وجبالها. وفوائد العسل بلا حصر، أهمها مكافحة العدوى وتعزيز مناعة الجسم وقدرته على الشفاء.
لا يعيش النحل فقط على رحيق الأزهار، وإنما يتغذى أيضًا على حبوب لقاحها الغنية بالبروتين. ويعد نوع الغذاء أحد أهم الفوارق بين النحل وبين الدبابير، التي تعتمد في غذائها على افتراس الحشرات الأخرى. وهكذا نرى أن النحل لا يجمع رحيق الزهور فقط، وإنما يحرص أيضًا على جمع حبوب اللقاح. ولهذا تكسو الشعيرات كل مكان تقريبًا في أجساد النحل. لنحلة العسل مثلًا أكثر من 3 ملايين شعرة على جسمها (حتى على العينين!) وأمشاط على أرجلها وأكياس لتخزين حبوب اللقاح على الأرجل الخلفية يتسع كلٌّ منها لأكثر من 160 ألف حبة. وتعود كل نحلة إلى الخلية بحمولتها لتصنع منها طعام عشيرتها الأساسي الغني بالطاقة والبروتين، المعروف بخُبز النحل.
شعيرات حتى على العينين. المصدر: ويكيميديا، تصوير دييغو دلسو.
ومع انتقال النحل بين الزهور، تنتقل معه حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى، في العملية المسؤولة عن تكاثُر النباتات، التي تُعرف بالتلقيح. وهكذا نرى أن النحل لا يمنحنا عسلَه فقط، وإنما يُهدينا معه معظمَ ثمار الخضروات والفاكهة التي نعرفها، إلى درجة أن النحل يساعد في إنتاج ثلث طعامنا تقريبًا! فكيف ردَدنا إلى النحل جميلَهُ؟
نحن قضينا على أكثر المراعي الطبيعية وملأنا حقولَنا بالمبيدات الحشرية، فتناقصَت أعداد النحل وما تزال، حتى صارت العديد من أنواع النحل تواجه خطر الانقراض. لكن لو اختفى النحل يومًا فنحن الذين سنكون في خطر حقيقي. في روايتها «تاريخ النحل» تتخيل الكاتبة النرويجية «مايا لوندِه» مستقبَلًا بلا نحل، يضطر فيه البشر إلى تلقيح النباتات بأيديهم!
لو اختفى النحل ستختفي بعده النباتات ذات الأزهار والثمار، ولن يهدِّد الانقراضُ فقط الكائنات التي تتغذى على النحل (مثل طائر الوَروار الملوَّن البديع، واسمه بالإنجليزية يعني: آكِل النحل) وإنما سيهدِّد أيضًا كل الأنواع التي تعتمد في غذائها على النباتات، وسيصل الخطر بالطبع إلى الحيوانات المفترسة التي تتغذى على آكِلات العشب. ولن يجد البشرُ أنفسَهم في مواجهة المجاعات فقط، وإنما ستواجههم كذلك المشكلات في العثور على ملابس، بعد أن يختفي القطن الذي يعتمد في تلقيحه على النحل. أما اختفاء حقول الزرع فلن يهدِّد فقط المزارعين، ولكن الخطر سيطول كوكب الأرض كله -الذي سينقلب معظمُه صحاريَ قاحلة- بكل مَن عليه، وكل ما عليه.
ليل تضيئه اليراعات
في فيلمه الرهيف «مقبرة اليراعات» يصوًّر لنا الفنان الياباني الكبير «هاياو ميازاكي» برسومه وسرده البديع مأساة «سيتا» وأخته «سِتسكو» بعد دمار بيتهما في قصف الحلفاء لليابان في الحرب العالمية الثانية، وموت والدتهما متأثرةً بحروقها. وحين يصل الشاب وأخته الطفلة إلى مأوى يلوذان به من الرعب في الخارج، يجمع «سيتا» بعض حشرات اليراعات لتضيء ظلام المَخبأ في الليل، وتحيل السوادَ الأخرس في داخله إلى لوحة حية تنطق بالجمال، وتحاكي سماء الليل المرصَّعة بالنجوم.
هذه اللوحة الخلَّابة قد تبدو خيالًا محضًا، لكنها -في الواقع- مستوحاة مما يحدث في الحقيقة؛ فهناك في عالمنا أكثر من ألفَي نوعٍ من اليراعات، وهي حشرات من رتبة الخنافس تتميز بقدراتها الفريدة على توليد أضواء من تفاعلات كيميائية داخل أجسادها. هذه الأضواء التي تسحر قلوب الناظرين، يستخدمها العلم أيضًا في الأبحاث الطبية للتمكُّن من رصد وتصوير الأنسجة المصابة ببعض الأمراض الخطيرة كالسرطان وأمراض القلب.
ولا تتوقف أهمية اليراعات عند علاج قلوب البشر، بل تتجاوزها إلى تشخيص وعلاج الطبيعة نفسها. فيرقات اليراعات تتغذى على الآفات التي تضر بالنباتات، أما الأطوار البالغة فتتغذى مثل النحل على الرحيق وحبوب اللقاح، وتساهم مثله في تكاثر أنواع النبات. واليراعات من أرهف المخلوقات، فهي تتميز بحساسية شديدة لأدق التغيُّرات التي تعتري بيئاتها الطبيعية، ولهذا يُعتبَر تناقُصُ أعدادها من بيئةٍ ما من المؤشرات التشخيصية الخطيرة على مدى الضرر الذي تعانيه هذه البيئة. وللأسف فإن ما يرصده العلم يؤكِّد أن الكثير من أنواع اليراعات تجاهد الآن للبقاء.
منارة صغيرة في الظلام. المصدر: ويكيميديا.
تقول «سارة لويس» الباحثة في الأحياء بجامعة تافتس في ماساتشوسِتس: «هناك بعض أنواع من اليراعات ما زالت تَقدِر على مقاومة تغيرات الظروف البيئية، مثل يراعات بنات نعش الأمريكية التي تستطيع مواصلة الحياة في كل مكان تقريبًا. لكن هناك العديد من أنواع اليراعات (مثل يراعات سراج الليل الإنجليزية واليراعات المُزامِنة في ماليزيا ويراعات أشباح أبالاشيا الزرقاء في الشمال الشرقي للولايات المتحدة) التي تخبو أنوارُها شيئًا فشيئًا مع الزحف البشري الذي لا يتوقف على بيئاتها الطبيعية، وما يتبع ذلك من آثار مدمرة، مثلما يحدث مع يراعة تيروبتِكس الماليزية حيث تنمو أشجار المانجروڤ التي يُجتث المزيد منها كل يوم لإفساح المجال لتوسُّع مزارع نخيل الزيت والمزارع السمكية».
وبينما تقف عوامل مثل انمساخ البيئات الطبيعية والإفراط في استخدام المبيدات الحشرية خلف التهديدات التي تُحدِق بالعديد من أنواع الحشرات بوجه عام، فإن الانقراضات صارت تهدد أنواع اليراعات -وخاصةً في شرق آسيا- لسبب آخر أهم وأخطر؛ وهو التلوث الضوئي.
تحمل بطونُ اليراعات أعضاء فريدة، يمتزج فيها الأكسچين والكالسيوم مع إنزيم خاص يسمَّى لوسيفيريز (على اسم لوسيفر الذي يعني حامل الضياء) في تفاعلات كيميائية باهرة، بالمعنى المجازي والحرفي، تبعث تلك التألقات في الظلام -فيما يُعرف بظاهرة الضيائية الحيوية– التي تلجأ إليها اليراعات كوسيلةٍ لجذب شركاء الحياة المحتمَلين وسط عتمة الليل الحالكة.
لكن ليل الأرض لم يعُد يتمتع بنفس ظلمته ورهبته وسحره. فأضواء الحواضر البشرية المتمددة تأخذ كل يوم في غزو الليل، وتلتهم ظلامه بمصابيحها وكشافاتها، حتى صار ظلام الغابات القديم مُنتهَكًا بفتات الأضواء الصناعية، التي تَحرم -مثل منارات كاذبة- يراعات الليل من الاهتداء إلى رفاقها، ومواصلة حياتها. وبالنظر إلى أن فرص التلاقي محدودة أصلًا، حسبما تفرضه الأعمارُ القصيرة للغاية للأطوار البالغة من اليراعات -التي لا تتعدى أحيانًا أيامًا معدودات- سنعرف كم صار التلوث الضوئي البشري يهدد بحفر مقابر جماعية لأنواعٍ بلا حصر من اليراعات التي خلبت أنوارُها الليلية ألبابَ البشر منذ قديم الزمان.
لا نملك إلا أن نشارك الطفلة «سِتسكو» -بطلة فيلم مقبرة اليراعات- أفكارَها الحزينة، إذ تتساءل وهي تدفن اليراعات التي لم تصمد إلى الصباح، عن السبب الذي يحتِّم على اليراعات أن تموت بهذه السرعة، بينما تُتابع عيناها آخِر يراعتيْن تخبوان بالتدريج وسط الظلام التام.
ليل تضيئه اليراعات. المصدر: ويكيميديا، مايك لوينسكي.