تيمة الرمل بين شاعر وكاتب / باته بنت البراء
تانيد ميديا : تراصيع على وجه الرمل” إصدار أهدانيه الإعلامي البارز الشيخ البكاي أيام صدوره، ولم أجد فرصة لقراءته قراءة متأنية إلا هذه الأيام، بعد أن انجلت مشاغل سرقت مني الوقت، إذ لست ممن يركنون للقراءة السريعة ولا أكتفي بالرأي الصادر عنها.
استوقفتني العتبة الأولى للنص، وتمنيت لو سبقت إليها الشاعر لأتخذها عنوانا لمجموعة شعرية، لقد شدني هذا التركيب المجازي الحافل بالزخرفة والتزيين: (تراصيع على وجه الرمل)؛ فالكاتب منشغل بالترصيع وهو فن إبداعي لا تتقنه إلا يد صناع تمتلك مهارة الرَّصف والتأليف، خاصة أنه ترصيع لوجه، والوجه يمثل الواجهة التعريفية لكل الكائنات؛ فبه تتحدد وتتمايز بشرا كانت أم حيوانات، مدنا كانت أم أريافا أم فضاء مفتوحا، والاشتغال على وجه الكائن أيا كان سعيٌ صريح لشد الانتباه إليه، ومراودةٌ حثيثة للباصرة والوجدان بغية التأثير والإمتاع.
غير أن المفارقة أن يكون الجهد والمهارة مُكرسيْن لترصيع وجه الرمل في بلاد تشهد التصحر والجفاف وتتلاعب بها الرياح أنجادا ووهادا منذ أزيد على نصف قرن من الزمن، تبدلت فيه معالم الأرض، وتغيرت قسماتها حتى ضل فيها العارفُ، ونكرها الآهلُ.
لقد كان لشاعرنا الكبير أحمدو ولد عبد القادر حديث مع الرمال، حين خلد أصداءها المترامية في قصائده الجميلة، أراد لها ذكرا مترددا يستمر استمرار الصدى، وينداح إلى آفاق تغالب الزمن العاتي، وعوامل التعرية، فحملها إلى المنابر العربية والعالمية؛ ذكرى حنين، وباقة حب، وأرض امتداد وعلم، لا يمكن أن تطمسها الرياح الهوج، ولا ان تطمرها الرمال الزاحفة:
رحلتُ مع الفجر صوب الشروق
أسافرُ بالشوق وردا وجمرا
فيا للحنين!
زنابقُ حب تنيرُ الوجودَ
وحرقة بينٍ تهزُّ الجمادَ
تُغذي البراكين نخبا عتيقا
من الركض غطاه ذيل الزمانِ
رحلتُ وعندي من الذكريات
لشنقيطَ باقات ودٍّ حميمٍ
تعيش مع القلب، تنبض دوما بعرف الوفاءْ
معي قبضة من تراب المحيط تلألأ ماسًا
وعرجونُ نخلٍ قديمٌ
لَوَتْهُ رياح السموم وزحف الرمالِ
وكنت أشذب منه اليراعَ
أشعشع بالماء فحم السيال وصمغ القتاد
وحبات قرظ جناه الرعاةْ
فأسقي المحابر نور الحياةْ.
حياة رخاء عرفتها البلاد أيام الخصب، وإشعاع المحاظر البدوية، وتطنيب الخيام، وسخاء المواشي باللحوم والألبان، طمستها سنوات القحط والجدب، والهجرة المهولة للسكان بحثا عن مورد حياة، وأراد لها الشاعر أحمد ولد عبد القادر ألا تضيع دفنا تحت ألسنة الرمال، وأن لا تندثر ولا تُنسى، فحملها في قصائده البديعة ليظل للمكان ذكراه، ولناسه تاريخهم الأثيل.
والأستاذ الشيخ البكاي بدوره جلس جلسة الفنان المحترف، وطفق يرصع الوجه الهلامي العاتي الذي عزَّ تثبيته على كل مشاريع التشجير ومكافحة التصحر بتمويلاتها السخية من الغرب والعرب، والتي لم يظهر للعيان منها إلا نُدَبٌ باهتة تشين وجه الأرض، وشتلاتٌ ذاوية تُغرس في اليوم العالمي للشجرة، وتثبت الكاميرات على الحشد الرسمي المصاحب لها، ثم تترك عفو العطش والجدب، ليظل الرمل زاحفا على آثار القوم طامسا كل نسغ للحياة.
كان المبدأ واضحا في ذهن الأستاذ وهو يرصع وجه الرمل: ” مطلوب من الصحفي أن يكون ذا قدرة على الإحساس بالناس، وأن تكون له أذن تلتقط إيقاع الحياة في الأماكن، وإيقاع اللغة أيضا… وأن يكون قادرا على أن يتخيل نفسه وقراءه محل الذين يكتب عنهم”.
هكذا جاء محتوى الكتاب مطابقا للمبدأ الذي ارتآه الأستاذ وألزم به قلمه على امتداد الصفحات التي تزيد على المائتين.
يصف الكاتب في لقطة شعرية تتداخل فيها الظلال والألوان معلما بارزا من العالم الرملي:
” تحت سماء بلون الرمل تمتد الصحراء ديمومة أمام ناظريك، لوحة شاسعة تمنحها الأعشاب الصغيرة والشجيرات الحليقة رونقا وحزنا مَرَدُّهُما تداخل الأخضر اللوزي بالرمادي الفضي بالأصفر الباهت. ويقول دليل بعثة (الوسط) في رحلة ال 3000 كيلومتر بحثا عن صيادي النمادي:
-أخشى أن نبيت ضيوفا على أشباح الصحراء إذا لم نتوقف قبل الليل في مكان مأهول.”
ويقدم الكاتب تفاصيل دقيقة عن دنيا الصحراء ومحيطها المثير: ” نغادر خيمة البدو مع خيوط الفجر الأولى على وقع إرزام إبل الحي وهدير جمل يحاكي أنغاما آتية من بعيد تصدر عن طبل تناجيه جواري أمراء البادية في مواسم الأفراح والحروب.
وتبتلعنا الصحراء إلى حيث لا نرى إلا خطوطا عابرة ترسمها حيوانات متوحشة أو أفاع على صفحة الرمل ليلا قبل أن تمحو رياح الصبح أسرار الليل “.
سرد وصفي جميل يرصع به الكاتب فضاء رمليا متحولا موحشا، ليظل عالقا بأذهان المتلقين، شاهدا على أن حياة تكتب لهذا العالم الموات، وخطى بشرية مرهفة مرت بالمكان وثبتته في ذاكرة الزمان.
ويصف الكاتب وصفا مؤثرا معاناة المستضعفين المحاصرين بالرمال والجدب في الصحارى الحدودية الممتدة بين البلدان، فيظهر المسالم البريء نهبا لسطوة المتسلط القوي، وعرضة للقتل والسلب دون سابق جرم ولا ذنب:
“قربت الطارقية مرياما مصباحا بتروليا يرتعد من وجه طفلتها التي تحتضر، وامتزج الدمع على وجنتيها بحبات الرمل الهارب من ولولة رياح الصيف في ليل صحراوي موحش، يلف خمسين ألف لاجئ من العرب والطوارق الماليين بين موريتانيا وجارتها الجنوبية الشرقية مالي؛ وبصوت متهدج شرعت المرأة تسرد ل(الحياة) قصتها:
-كان ذلك في السادس من هذا الشهر(آذار- مارس)، خرجت مع نسوة نجمع الحطب وحينما عدنا إلى الحي(حي بدوي) وجدنا الجنود يحرقون جثث رجال ويطاردون آخرين مستخدمين المدافع.
وتضيف مرياما وهي تغالب غصة بكاء تخنقها: بحثت عن زوجي فلم أجده.. أخذنا الأطفال وهمت في الصحراء بصحبة امرأتين، وكانت الرحلة من غواندام (بلدة في أزواد) إلا هنا طويلة(حوالي 140 كيلومترا) ومتعبة على الأقدام .. وأنا كما ترى حامل)”.
وفي خضم هذا الرصد السردي الدقيق لا نعدم أن نقف على لحظة من لحظات الزمن الشاردة ، يتراجع فيها الرمل والغبار، وتجود السماء بغيث هتون، فيلتقط الكاتب تلك اللحظة ويرسمها بريشة فنان:
“قلت للسائق ونحن نعلو كثيبا جلله النبات الغض:
– هناك من يشير إلينا بالتوقف.
كان رجلا في حدود الأربعين سلم وابتسم ثم قال:
-رأيت السيارة ففهمت أنكم أهل المدينة ولدي رسالة أريد أن توصلوها.
-هات الرسالة؛ قال السائق باقتضاب.
قال البدوي مشيرا بيده:
-أترون الأرض؟ أليست خضراء؟ والماء ألا يجري في كل مكان؟ انظروا إلى الماشية أليست سمينة شبهي؟”
هكذا طفق الشيخ البكاي يتتبع ذاكرة المكان، ويسجل تاريخ اللحظات، ليمد المتلقين بعطاء حافل ومشهود، لا يريد له النسيان ولا الاندثار، وظل يرصع وجه الرمل الغائم بالسرد البهي واللغة الآسرة، واصفا للأرض، ومتحدثا عن الساكنة، ومصورا مشاهد الحياة، وناقلا أمينا للأحداث الاجتماعية والسياسية في البلد وجواره.
فتقديرا وحبا لمن جعلوا للرمل ذاكرة، وأحالوا الجدب خصبا، والموات حياة، واتخذوا من الكلمة الآسرة إلى ذلك سبيلا، دون أن يتلقوا تمويلا سخيا أو ينتظروا بهرجا دعائيا.