في ذكرى ثورة فاتح نوفمبر المجيدة

تانيد ميديا “نوفمبر حدثنا، عهدناك صادقا ** ألست الذي ألهمت أحجارنا النطقا”؟*

بلى! إن ثورة أحرار الجزائر في فاتح نوفمبر 1954 لم تغير التاريخ والجغرافيا على مستوى الجزائر وفرنسا والمغرب العربي فحسب؛ بل غيرتهما كذلك على مستوى العالم كله؛ وخاصة في إفريقيا والوطن العربي وفي آسيا وأمريكا اللاتينية وفي أوروبا أيضا!

        إنها الثورة التي انتزعت من الجمهورية الفرنسية “إقليمها” الإفريقي الفسيح، وجنة مستوطنيها الجديدة، وخزانها النفطي الذي لا ينضب، وأنزلتها – هي وحليفتها بريطانيا العظمى- من صياصي الدولة العظمى إلى درك الهزيمة والتقوقع، حين ألهبت ظهورهما حرب التحرير الوطنية وألهمت شعوب الأرض في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية روح الثورة على الاستعمار:

“وطني يا ثوره على استعمارهم ** املَ جزايرك نار دمـــرهم

لـو نستــــشهد كلـــنا فــــــــــــيه ** صخر اجبلنا راح إحاربهم

الاستعمار على ايدنا انـــــــهايتو ** راح من الدنيا ازمان أوقتو”.

        لقد كان لثورة أبناء “عيد القديسين” (Les fils de la toussaint  ) أكبر الأثر في هبة شعوب المستعمرات من أجل الاستقلال، وكان لها أثرها الكبير كذلك في وجدان ووعي الحركة الوطنية الموريتانية التي ظلت تساند استقلال الجزائر ووحدتها الترابية وتدعم ثورتها حتى تحقق لها النصر. ويمكن تقديم الأمثلة التالية على ذلك:

1. إعلان مؤتمر سكان موريتانيا في ألاگ في 2 مايو 1958 رفضه القاطع لأي انضمام سياسي أو إداري إلى “منظمة عموم الأقاليم الصحراوية” التي أنشأتها فرنسا بغرض سلخ صحراء الجزائر عنها والاحتفاظ بها لنفسها. وذلك رغم إغراءات وتهديدات المستعمر الفرنسي. يقول الرئيس المختار في كتابه موريتانيا على درب التحديات: “غير أننا لم نكن لنقبل بعضوية منظمة هدفها الحقيقي هو اقتطاع الصحراء الجزائرية من بقية أراضي بلد شقيق يخوض مناضلوه حرب تحرير وطنية، ولو دفعنا ثمنا لذلك تلك المكاسب الجزيلة التي يمكن الحصول عليها، فمن المستحيل أن نطعن مقاتلي جبهة التحرير الجزائرية في الظهر بالانضمام إلى مشروع فرنسي يرمي إلى حرمان الجزائريين من صحرائهم الفسيحة؛ وهي الجزء الأكثر غنى بالغاز والبترول. وفضلنا في تلك الظروف أن نظل أوفياء لمبادئ التضامن مع أشقائنا في نضالهم من أجل الحصول على الاستقلال. ولا شك أن هذا الاختيار كلفنا غاليا؛ فقد ضربنا صفحا عن الاستثمارات المهمة التي كان بالإمكان الحصول عليها في إطار منظمة عموم الأقاليم الصحراوية، وهي استثمارات كانت حاجتنا إليها أكيدة طبعا، وتعرضنا كذلك لخطر الاصطدام بالحكومة الفرنسية التي كنا نقع تحت رحمتها في كل الميادين” (موريتانيا على درب التحديات، ص 166).

2. توجيه مؤتمر ألاگ “نداء خاصا إلى فرنسا يطلب منها فيه وضع حد للحرب في الجزائر وبدء المصالحة مع البلدان العربية”. ( نفس المصدر السابق ص 167).

3. وعلى المستوى الشعبي فقد كان هناك إجماع على مساندة الثورة الجزائرية، نذكر منه – على سبيل المثال لا الحصر- التفاف بعثة القضاة الموريتانية في تونس حول الثورة الجزائرية وحول الشيخ نعيم النعيمي عضو جمعية العلماء الجزائريين؛ والذي كان أحد ممثلي الثورة هناك. ومن أبرز مظاهر ذلك الالتفاف – إضافة إلى الدعم المستمر- استقبالهم للأحرار الخمسة في مطار العوينة في يوم مشهود وهم يحملون باقة ورد رصعت بعلمي البلدين وأعلاما موريتانية فصلوها لذلك الغرض، وأخرى جزائرية. ومن بين الذين يظهرون تحت الأعلام كلما انقشع النقع الشيخ محمد سالم ولد عدود والشيخ محمد ولد محمذ فال رحمهما الله، وفضيلتا القاضيين محمد عبد القادر ولد ديدي وسالم ولد حي أطال الله بقاءهما، وكاتب هذه الأسطر!

ومما لا شك فيه أن الجزائر قد ردت جميل موريتانيا وأكثر بعد استقلالها؛ خاصة عندما دعمت وساندت بقوة إصلاحات السبعينات، فشكلت بذلك ظهيرا قويا وثابتا لموريتانيا في سياساتها التحررية الرامية إلى الخروج من ربقة الاستعمار الجديد.

لكن سرعان ما جرت الرياح بما لا تشتهي سفن الشعوب، فاندلعت حرب الصحراء التي أرهقت العباد وأفسدت البلاد وأهلكت الحرث والنسل وألحقت بموريتانيا الدمار بسبب سياسة “الحلقة الضعيفة” والأرض المحروقة التي انتهجتها بوليزاريو اتجاه موريتانيا؛ الشيء الذي عصف بجميع ما أنجزته موريتانيا، وهددها في أعز ما لديها: حريتها وكيانها.

ثم اندلع الإرهاب في الجزائر فعصف بها سنين طويلة، وما تزال تحاول التخلص منه بالكاد، وتعمل على التعافي من مخلفاته وآثاره الوخيمة.

… وفي عهدنا الحاضر تم فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين عنوانها الاحترام المتبادل والتعاون المثمر الذي من مظاهره الإيجابية فتح المعابر بينهما وتسريع وتيرة النقل والتبادل، وتنظيم المعارض.. الخ.

إن أصدقاء الجزائر الحقيقيين وأنصار ثورتها التاريخيين ليتمنون لها اليوم من أعماق قلوبهم أن تنعم بالاستقرار، وأن تسير في نهج تنمية قدراتها الاقتصادية والبشرية الهائلة في خدمة شعبها العظيم الذي يستحق كل خير، وشعوب الأرض الصديقة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي ساندت ثورتها وحمتها.

ويرون أن مفاتيح هذا الطريق إنما هي:

– العمل في أسرع وقت ممكن على إنهاء نزاع الصحراء العقيم الذي دمر المنطقة وعطل جهودها قرابة نصف قرن من الزمن دون جدوى.

– تنظيم انتقال سلس من إرث مرحلة ما بعد بو مدين، وتحديد معايير ثابتة وواضحة تتبناها الأمة الجزائرية بغية  ضمان التداول السلمي للسلطة والعبور بأمان إلى عهد ديمقراطي مزدهر جديد.

– مد جسور الصداقة والسلام والتبادل الاقتصادي والثقافي إلى كافة الشعوب الصديقة؛ وخاصة شعوب المغرب العربي والقارات الثلاث التي شكلت عمق الثورة الجزائرية وظهيرها الذي لا يلين ولا يريم حتى تتحقق الآمال المعقودة على جزائر الثورة.

_______________

* مفدي زكريا من قصيدته:

سلوا مهجة الأقدار هل جرسها دقا ** وهل خاطر الظلماء عن جيدها انشقا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى