رحلة الى مدينة وادان …/ خديجة ابراهيم
الطريق إلى المدينة يجبرك على التقدم ببطئ كبير وحذر شديد فاجتيازك لتلك المرتفعات والإنحناءات المتوازية يكلفك الكثير من العناء والمشقة وكأن من أراد الوصول إليها فلابد له من ركوب الخطر .
تمر بك السيارة على الطريق الممهد بين مدينتي أطار و وادان في يسر وأنت تلمح عن كثب قمم الجبال الممتدة على مد البصر, وان حق لك النظر إلى سفحها السحيق يوما فأخبرني فوعورة الطريق وجمالها المذهل تجعلك تتسائل كيف أمكن هذا؟ وكيف دكت الجبال دكا؟وكيف شقت الأحجار شقا? وكيف رصف الطريق رصفا ؟ثم كيف دار ودار ثم إستقام على الطريقة وعلا ثم هبط ?وأنت تخامرك الأسئلة ستشعر بالعلو والهبوط وقشعريرة لايصفها الواصفون لكنك ستكتشف هنيهة ,ان الأمر يستحق العناء حين تنتهي بك تلك الطريق الوعرة إلى مشارف مدينة أثرية صغيرة إذاحللت بها نسيت كل شيء وشغلك بهاء جمالها عن كل شيء ترى بالقرب من مدخلها هضبة عالية تسلب الألباب, خرجت من بطن الأرض كأنها كوكب دري تحمل شعارها كما لو كانت تحرسها, ويتقدم بك المسير نحو سهل ممتنع إمتلأ نخلا باسقا له طلع نضيد وكأنه جنينة سقطت من السماء في أحضان الوادي متخذا من الآيات السبع عشرة علوا يطاول به عنان السماء محاورا في خفر وحياء ذلك الجبل المطل عليه في مشهد يسبي الناظرين ثم يعترضك الطريق إلى تلك التلة الجبلية الشماء حيث تتربع مدينة وادان في عناق بين الماضي الحاضر بسورها القديم ودورها المبنية والمتخذة من الحجارة والطين تتخللها طرق ملتوية أخذت شكلها الهندسي من طبيعة وجغرافية المكان وتقرأ في سطور تلك البيوت قوة وجلادة وواقع الإنسان الواداني,حيث تعلو المكان منارة المسجد العتيق اصلها ثابت وفرعها في السماء,وهو معلم تاريخي بناه المؤسس والعالم يحظيه ولد الفاضل سنة 1835م و يقع المسجد على شارع الأربعين عالما والذي تم ترميمه سنة 2020 م من طرف المؤسسة الوطنية لحماية المدن القديمة.
مدينة وادان جوهرة الصحراء صراع بين التاريخ والجغرافيا ومزيج من الأصالة والعراقة , تقع على بعد مئة وسبعين كيلومترا 170كلم الى الشرق من مدينة اطار أسسها الرجال الثلاثة الحاج إعلي اللمتوني،الحاج يعقوب و الحاج عثمان سنة 536 هجرية.
وفيما بعد عبدالرحمن الصائمي, وكان الهدف الموحد لهؤلاء الثلاثة سببا في تقارب الفكر وتمازج الذوق وتوحيد المشارب لأهل المدينة فساهموا في بناء حضارتها التليدة ,التي عرفت أوج ازدهارها في القرن السادس الهجري
الموافق للقرن 12م .
وافاضوا عليها بكنوزهم وأسرارهم الروحانية وأمدوها بتلك الثروة الهائلة من العلم والتي عجز أي علم من العلوم عن إحضاره بدون إستعانة أواستعارة فابوا الضعة وبحثوا في كل علم وفي كل فن و ملأوا الدنيا مؤلفات ودواوين فمن تطأ قدمه هذه المدينة تتجلي له أفضال تلك القرائح المتقدة التي أعطتها فيضا لاينقطع مدده.
عرف أهل وادان بالولوع بالعلم والسعي في تحصيله تحدوهم رغبة لاتشبع وعزم صارم لا يني غير مبالين ببعد المسافات وأخطارها فسجلوا بصماتهم وشواهدهم عليها بعزوفهم عن الدعة وأزمعوا على بنائها ,الذي مر بكثير من الأحداث والقصص الملهمة التي تثير المشاعر وتهز الوجدان والعاطفة فأجادوا في عمرانيتها بإبداع ملكوا ناصيته.
فمن يخترق حجب المدينة ويحاكيها بعيناه ويمتزج معها سيستوحي منها عوالم متحركة تحس وتتكلم وسيجد فيها ميدانا فسيحا إن كان شاعرا أو مبدعا لينقل ويصقل موهبته وتجربته الزمنية .
فما أجمل الإبداع التراثي إذاكان يصدر عن إتساع في الفكر وإتساع في الخيال فليست المدينة وآثارها إلا رسالة فكرية خاض أصحابها غمار الجهاد المقدس بالنفس والنفيس مما قد يخرص كل جبار عنيد أذاقه الله طعم مرارة الشك في قدرة قوم أتاهم الله ماعنده من علم الكتاب.
المدينة ترامت عليها همم المؤسسين وترامت الأينق ذلل بهم يحملون هدى وسلاما فحموها بالسيف ودافعوا وحاربوا عنها أهل الحيف ،فمازالت رغم عاديات الزمن تحتفظ بخصائصها التراثية والتاريخية ,فتراها جاثية بأنف وكبرياء فوق جبل مرتفع عن مواطن الخنوع والزلل فالتاريخ لا يعرف أمة حملت أكثر مما حملوا ولا سطرت على صفحاته, أجمل مما سطروا,فقد أحسنوا وأجادوا الإبتداع والإتباع والإعارة والإستعارة ,فهم دعاة علم وعمران وستبقى المهد الأفيح فياضا مدادا على أهله بمائه, وهوائه, وآثاره ,وحجارته .
فمابالك بعنهجية تدعي ما ليس لها بالحق وتطوي عشرات القرون لتصل بسفاهتها إلي مايستحيل نيله وما بينها وبينه امدا بعيدا, ومدا وجزرا,وجذبا ودفعا.
وما رأيك ببلاد هذه صفتها وهذه همة أهلها تضم أربعة ملايين من البشر وكلهم قوة وصولة أذهلت الكثيرين, وتوافرت فيها جميع المعطيات , والآيات المحكمات , بالرغم من سهام الكذاب الأشر والمريبين ,ورهانات الساذجين ,فقد عمروا تحت سطح البحر وسفح الجبل وفوقه , غيرة ونخوة فمن يقبل ان يدخل في زمرة من يشملهم النعت? ومن الذي بربك لايحب كسب الرهان حقا؟