شعبان.. شهر الاستعداد لرمضان سلطان بركاني
تانيد ميديا : في ليلة الجمعة الماضية، أهلّ هلال شعبان جار رمضان الذي كان الصالحون يعرفون قدره، ويعرّفونه بأنّه شهر القراء، وشهر رفع الأعمال إلى رب العالمين، وشهر الاستعداد لرمضان.. شهرٌ فضيل تُهيّأ فيه الأرواح والقلوب لشهر الغفران، حتى يأتي الشهر الفضيل والقلوب ليّنة والأرواح طيّعة همّها ما عند الله.. وقد علّمنا حبيبنا المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- أن نجعل من شعبان نافلة قبلية لرمضان، كما نجعل لصلاة الفجر المشهودة نافلة قبلية تهيّئنا لها.
روى أحمد والنسائي عن أسامة بن زيد -رضي الله عنـه- قال: قلت: يا رسول الله، لم أرَك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: “ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفَع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأُحب أن يُرفعَ عملي وأنا صائم”.. ولك أن تلحظ كيف قال عن شعبان إنّه شهر يغفل عنه النّاس بين رجب ورمضان، وهو بذلك يعلّمنا أن نهتمّ بالتقرّب إلى الله في الأوقات التي يغفل فيها النّاس وينشعلون بدنياهم، وقد فهم الصّالحون هذه الوصية، فكانوا يتحرّون الأيام والمواسم التي يغفل فيها النّاس فيزدادون فيها اجتهادا، لعلّ الله يتداركهم برحمته ويكتب لهم رضوانه. وقد روي عن التابعي العلم عونِ بنِ عبد الله –رحمه الله- أنّه قال: “إن الله –تعالى- لَيُدخل الجنة قوما فيعطيهم حتى يملّوا، وفوقهم ناس في الدرجات العلى، فلما نظروا إليهم عرفوهم, فيقولون: يا ربنا إخواننا كنا معهم, فبم فضلتهم علينا؟! فيقول: هيهات هيهات، إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمؤون حين ترووَن، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون”.
قديما كان النّاس يهتمّون برجب ورمضان ويغفلون قليلا عن شعبان، حتّى علّمهم النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام- أنّ شعبان أولى بالاجتهاد من رجب، فجعلوا من شعبان سُنّة قبلية لرمضان.. أمّا في زماننا هذا فإنّنا نغفل عن رجب وشعبان وسائر الأشهر، إلا من رحم الله منّا، وفي شعبان خاصّة ينشغل كثيرا منّا بإعداد مؤونة رمضان، من ميزانية مالية ومآكل ومشارب وأواني للمطبخ، وينسون الأهمّ الذي هو إعداد القلوب وتهيئتها لشهر الغفران والعتق من النيران.. حتى إذا أهلّ هلال رمضان، وأردنا أن نجتهد في طاعة الله، وجدنا في صدورنا قلوبا قاسية وبين جوانحنا أرواحا مثقلة، فتمضي أيام رمضان ولياليه ولم نستفد من هداياه وعطاياه وروحانياته شيئا، فنخرج منه كما دخلنا.
رمضان منحة ربانية وجنّة أنزلها الله إلى الدّنيا، ولا يدخل هذه الجنّة من لم يعدّ ويستعدّ.. وإذا كان الصالحون قديما يستعدّون لرمضان ستة أشهر كاملة، وكانوا إذا دخل شعبان ازدادوا اجتهادا تحسبا لرمضان، وكان الواحد منهم ربما يتفرّغ في شعبان من مشاغل الدّنيا ويقبل على مشاغل الآخرة، وكان منهم من يغلق حانوته في هذا الشهر، لأنّهم تعلّموا أنّ رجب هو شهر الزرع، وشعبان هو شهر السقي، ورمضان هو شهر الحصاد.. إذا كانت هذه حال سلفنا، فنحن لا أقلّ من نستعدّ لرمضان شهرا قبله، في شهر شعبان الذي تعرض فيه أعمالنا على الله ربّ العالمين العليم الخبير، رفعَ تشريف وقبول لمن قدّم صالحا، ورفع توبيخ وتأخير لمن فرّط وقصّر.. وحبيبنا -عليه الصّلاة والسّلام- يعلّمنا أن نجعل هذا المعنى المهمّ نصب أعيننا في شعبان، فرفع الأعمال إلى الله ليس حدثا عاديا عند عبد مؤمن يملك قلبا حيا في صدره، ونحن لو كانت أعمال الواحد منّا -خاصّة ما يخفي منها عن أعين النّاس- تعرض على مخلوق مثله يستحيي منه لعمل لذلك ألف حساب، ولَذاب حياء من اطلاع ذلك العبد على غدراته وفجراته.. كيف بنا وأعمالنا تعرض على الحيّ القيّوم الذي يملك آجالنا وأرزاقنا وإليه المآب وبين يديه الحساب، وبيده الجنّة والنّار؟ وأعمالنا ترفع في شهر شعبان، حتّى نحدث فيه توبة نتخلّص بها من ذنوبنا التي تثقل ظهورنا وتقسّي قلوبنا، وندخل رمضان بقلوب ليّنة وأرواح متخففة.
العبد المؤمن الكيّس الفطن الذي يرجو أن يكون رمضان شاهدا له، ويكون المحطةَ التي تتغيّر فيها حياته ويبدأ معها صفحة جديدة وعهدا جديدا مع الله، لا ينتظر إلى أول يوم من رمضان ليتوب، إنّما يتوب قبل ذلك في كلّ وقت وكلّ حين وبعد كلّ ذنب يحدثه: ((إِنَّمَا التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالة ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيهِم وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيما)).. ثمّ يتوب توبة عامّة شاملة في شعبان في شهر رفع الأعمال، لعلّ الله يغفر ذنوبه ويستر عيوبه ويرحم تقصيره، فيدخل رمضان كأنّه ولد من جديد بصحيفة خالية من السيئات، ويعيش جنّة الدّنيا في رمضان.