مقاومة العنصرية المعاصرة بآلية “محو الثقافة” بقلم الأستاذ الطالب اخيار محمد مولود*
تانيد ميديا : الإقرار بمعاصرة العنصرية هو إقرار أيضا ببقائها وقدمها، إقرار بوجود عنصرية قديمة وعنصرية معاصرة وعنصرية قادمة، وعليه يكون الميز العنصري عاملا ثابتا، لكن تختلف وظائفه وآثاره وحِدّته حسب الفترات الزمنية.
العنصرية التي أثارت تمرد سكان دولة الهايتي وانتفاضتهم المسلحة على الجيوش النابولونية وتلك التي حاربت فيها شعوب إفريقيا الأسترالية الأنظمة العنصرية، تختلف من حيث الحدة والعنف عن تلك التي قاومها مارتن لوثر كينغ بعدم العنف والشاعر ليو بولد سدار سنغور بخلط الأجناس. وتختلف جميع أنواع العنصرية هذه عن العنصرية الموجودة اليوم التي يهاجمها نشطاء “محو الثقافة” ويعرفونها “بالعنصرية المعاصرة” ويواجهونها بنبرة لا تخلو من العدوانية أحيانا بما يسمونه “مناهضة العنصرية المعاصرة” غير مكترثين بالقيم الكونية التي لا تعدو كونها أمنيات، حسب تصورهم، كما يشير إلى ذلك – في لغة متوازنة ومعتدلة- وزير التعليم والشباب الفرنسي اباب انداي قائلا: مناهضة “العنصرية المعاصرة” في مجملها لا تدير ظهرها للقيم الكونية وإنما تريد أن تعمقها متجنبة أن تكون أمنيات أو مجردة أو “بدون روح” حسب أيميه سيزار (Aimé Césaire). هي الواقعية: العمل من أجل تراجع العنصرية بدل أن نتعب أنفسنا بحثا عن استئصال هذا الداء من أذهان العنصريين.
تفسر هذه المقاربة الواقعية تنوع أشكال الميز العنصري واختلاف حلول بعضها عن حلول البعض الآخر، مثل “مناهضة العنصرية المعاصرة” التي تختار من بين هذه الحلول الحل المتمثل في “محو الثقافة”.
ماذا تعني عبارة “The Cancel Culture”؟ ترجمتها الحرفية هي إلغاء الثقافة، وقد تترجم أيضا بمحو الثقافة، والهدف المطلوب هو محو الآخر المتهم بالعنصرية وحجبه عن الأنظار.
نشأ تيار “محو الثقافة” في الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الألفية الثالثة على خطى تيار “اليقظة” (Wokisme) المقتبس اسمه من الأغنية “أبقى مستيقظا” (Stay woke).
وقد اتخذت حركة “حياة السود يحسب لها حسابها” (Blacks lives matter) عنوان هذه الأغنية شعارا رفعته في لافتاتها أثناء مظاهراتها المطالبة بحق الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية في الولوج إلى الحقوق المدنية واحتجاجا على ما تتعرض له هذه المجموعات من التجاوزات القمعية.
يصف جاك توبون (Jacques Toubon) التصور الذي عند تيار “اليقظة” عن الميز العنصري بأنه “داء بنيوي يصيب مؤسسات الأمم التي مارست الاسترقاق أو الاستعمار” والهدف الاستراتيجي لهذا التيار هو ملاحقة وطرد وإدانة كل من يفترض أنه عنصري؛ وذلك باستخدام وسائل عديدة من بينها محو صورته حتى تختفي عن الأنظار، ومن الناحية العملية يتجسد ذلك في استخدام وسائل خاصة لهذا الغرض تستمد فعاليتها من المشاركة المباشرة للمعلومات وشبكات التواصل من خلال تطبيق بلوكتشين (سلاسل الكتل) التي تُمَكّن من الاكتشاف الفوري للأعمال العنصرية وفضحها على المستويين المحلي والدولي.
يتمركز نشطاء ثقافة المحو في موقع يمكنهم من المطالبة بمنع من تصدر منهم أقوال أو أفعال عنصرية من المشاركة في المنتديات الدولية وإخضاعهم لمضايقات قد تصل إلى مرحلة المنع من حرية التنقل خارج حدود البلد الذي ينتمون إليه، ويمكن أن تشمل عقوبات مالية مع احتمال المتابعة الجنائية على مستوى الهيئات الدولية المختصة أو على مستوى الهيئات الوطنية بناء على الاختصاص الدولي.
تقول لور مورات الأستاذة في المعهد الأوربي للغة والثقافة إن ثقافة المحو “تتمثل أساسا في كشف الأقوال أو الأفعال المخالفة للقانون الصادرة عن الأشخاص أو المؤسسات أو الهيئات وحرمانهم من كل أنواع الدعم، وإلزامهم بالقيام بمسؤولياتهم والتوقف عن تكريم الشخصيات المتهمة بارتكاب الأعمال العنصرية [….]”. وهذا ما امتثله البنك الدولي موازاة مع حركة إدانة تصريحات الرئيس التونسي في شهر إبريل المنصرم حول الهجرة غير الشرعية عندما امتنع عن منح تونس تمويلا كان قد اتفق عليه من قبل، وقد اعتبر اتهام الرئيس التونسي للهجرة السرية بأنها تخل بالبنية العربية الإسلامية لتونس بأنه عنصري، وقوبل بإدانة واسعة أيدها جميع الدول التي تأثر رعاياها بالتهجير والتحق بركب الإدانة والاستنكار نشطاء ثقافة المحو من الأمريكيين من ذوي الأصول الإفريقية والهيئات الأممية لحقوق الإنسان والاتحاد الأوربي، ثم البنك الدولي؛ علما أن التمويل الذي ألغته هذه المؤسسة كان مخصصا لمساعدة تونس في مواجهة الصدمات النقدية التي لحقت بها جراء جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
ومن الغريب أنه في الوقت نفسه لم يصدر أي نوع من الاستنكار والاستياء من الترحيل القسري لمئات الأسر المنكوبة من طرف قوات الأمن التي دمرت منازلهم وشردت أطفالهم ونساءهم وطردتهم من جزيرة آنجوان الفرنسية (Anjouan) التي استوطنوها وعاشوا فيها عشرات السنين ولم يستنكر أحد أيضا مطالبة أكثرية الرؤساء الأوربيين الرئيس التونسي بجعل بلاده ملجأ وحصنا يقي بلدانهم من الهجرة التي كانوا يدافعون عن أصحابها قبل ذلك بأيام ولا يعلق أحد أيضا على ما يرتكب سرا وعلانية من جرائم جماعية ضد مجموعة الروهينغا ولا يثير ذلك أي قلق أو إدانة.. أضف إلى ذلك ما يتعرض له المسلمون في كثير من الدول الآسيوية التي تعتبر فيها البوذية دين الدولة.
وتتفرج المجموعة الدولية كذلك مكتوفة الأيدي على المآسي التي يروح ضحيتها يوميا مئات المهاجرين بسبب تعطيل مراكبهم البسيطة وغرقهم إلى الأبد في أعماق البحر الأبيض المتوسط.
من أهم وسائل تيار “محو الثقافة” تفكيك وتدمير النصب التذكاري للمتهم بالعنصرية كما جرى لجوزفين دي بوهارنى زوج الإمبراطور الفرنسي نابليون التي يرى نشطاء ثقافة المحو أنها رمز للعنصرية. ونذكر أيضا إخراج تمثال جفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة من مجلس بلدية نيويورك بسبب ماضيه وسوابقه الاسترقاقية؛ إضافة إلى إزالة تمثالي وينستون شرشل وإبراهام لينكولن وغيرهما.
وفي اتجاه معاكس تشجع ثقافة المحو منتسبيها على نصب أنفسهم مدافعين عن نشطاء الحقوق المدنية السود، كما وقع في إحدى ضواحي مدينة باريس عندما تقررت إزالة اسم ناشطة الحقوق المدنية الأمريكية من ذوي الأصول الإفريقية آنجلا دفيس (Angela Davis) من إحدى ثانويات سانت دنيس (Saint Denis) واعترض مناضلو “محو الثقافة” بشدة على ذلك الإجراء، لكن مجلس جهة إيل دفرانس (Ile de France) أصر على إطلاق اسم روزا باركس (Rosa Parks) على الثانوية المذكورة؛ وهي ناشطة أخرى في الحقوق المدنية، وأمريكية الجنسية، ومن أصول إفريقية مثل آنجلا دفيس، لكنها أقل منها تطرفا وأكثر اعتدالا.
لا تقتصر الوسائل التي تتبعها ثقافة المحو على إزالة تماثيل الشخصيات المتهمة بالعنصرية، ولا على التشهير بهم لإسقاطهم من أعين الناس والتقليل من شأنهم على المستوى الدولي؛ بل تبحث عن الوسائل التي من شانها أن تجعل ثقافة المتهم بالعنصرية غير مرئية من خلال محو جوانبها الأدبية والفنية والعلمية؛ فعلى سبيل المثال الحيلولة – وإن بعنف- دون عرض فني تحمل وجوه الممثلين فيه الطلاء لما في ذلك مما يمكن أن يمت بصلة إلى “الوجه الأسود” فالشخصية التي تمثل أوتيلو في مسرحية شكسبير (Shakespeare) لن يقوم بدورها مستقبلا إلا شخص أسود البشرة، رغم أن المؤلف يقدم أوتيلو (OTHELLO) على أنه بربري استُعْبِد ثم تَحَرَّر، والمسرحية تتعلق بمؤامرات ومكايد البلاط وما يكتنفها من قصص الحب والغيرة.. وفي السياق نفسه يعترض نشطاء ثقافة المحو على كون ترجمة نصوص الشاعر الأسود لا يمكن أن يقوم بها إلا من هو أسود مثله، ومن وسائلهم كذلك حرق الكتب، ويرون أن مؤلفيها أشخاص عنصريون.
بناء على ما سبق فإن ثقافة المحو ما هي إلى أنشودة تتغنى ببعث الأفكار القومية والطائفية والعنصرية؛ متحدية قيم المواطنة، ومقدمة الآخر من خلال انتمائه العرقي أو الطائفي؛ وهو ما تفضحه كوليت كيومين بقولها: “يبدأ الميز العنصري عندما ننظر إلى الشخص على أنه ينتمى إلى طائفة أخرى”.
_________________
* محام لدى المحكمة
عضو سابق في مكتب هيئة المحاماة