تانيد ميديا : تحدثنا في الحلقة الماضية عن نشأة الكرس الأول عند “كفل” وها نحن نتحدث الآن عن الكرسين الثاني والثالث، وعن سبب ظهورهما، وعن بعض خصائص الكرس الأساسية، كـ”بَتٍّ” من حيث الكلمات والانغام.
فقد قضى الله في أزله أن اغتيل السلطان اعلي ولد أعمر ولد اعلي – رحمه الله- في كرسه ذلك عند “كفل” وأن يكون من غدر به وأرداه هو أخوه هنون ولد أعمر ولد اعلي! ويقال إن للسلطة الدينية يومها دورا في تلك الفتنة إثر خلاف نشب بين السلطان وبين الشيخ ابَّهاهْ! وفور اغتيال السلطان قام خطري الكبير – وهو أحد رجاله- بتهريب ابن أخته الصبي وسميه خطري الصغير، أخي القاتل والمقتول، الذي أخذ فيما بعد بثأر أخيه اعلي من أخيهما هنون! وفي ذلك يقول أحدهم متعظا بصروف الدهر:
أَسْكي مَفَـــكَّرْ لِي** ذا الدَّهْرْ الْماهُ صَـوْنْ
ولما أصبح هنون سلطان أهل هنون امْبَهْدَلْ، طلب من “إياون” أن يخصوه بـ”بَتّْ” من الكرس الذي أصبح – لجماله وجزالته- بمثابة نشيد سلطنة أهل هنون امْبَهْدَلْ؛ فَعُزِفَ له “ولّْ أَعْمَرْ ولّْ اعْلي دومولِ يا الخَلّاگ!” ولم أعثر على اسم عازفه، ولا على “گفان” فيه تُمَجّد هنون، ربما بسبب استهجان فعلته بأخيه، أو بسبب زوال ملكه السريع، أو بالسببين معا. ومن كفانه المتأخرة القليلة الشهيرة:
وقَتَلَ خطري هنون، وأصبح سلطان الحوظ، فوجد الناس في عهده عودة إلى شرعية أخيه اعلي، وقيلت فيه “اتْهَيْدينِتْ” القصاص، وازدهرت السلطنة والحوض في عهده. ولما جاءه “إيگاون” يهنئونه قال لهم: إن أفضل ما ورثته عن أخي اعلي هو الكرس، فأعطوني “بَتًّا” منه. فأعطوه:
“ولّْ أَعْمَرْ ولّْ اعْلي ** لا دَوَّرْ فِيَّ دَيْنْ”.
وفي قولهم ذلك تنويه بعزم وشجاعة خطري، وسرعة وقوة انتقامه لأخيه من أخيه. وهو ما عبروا عنه في “كرسه” بحرصه على اقتضاء الدين، وبالقصاص في “اتهيدينة” القصاص. وهذا هو الكرس الثالث والأخير.
ومن خصائص الكرسين – الأول والأخير- في مجال الكلمات لا الألحان، أنهما “يُشَوْهَدانِ” بالطلع والگفان؛ ويشاركهما في هذه الخاصية شوران آخران كبيران هما “اتناعيت” و”الفائز”. فالكرس الأول تغنى فيه “طلْعْ” اعلي انبيط التي ذكرت في الحلقة الماضية، و”گِفان” من أشهرها وأجملها:
شِفْتْ اذْراعْ العَرّادْ ** امْصَيَّفْ فيهْ أيْفُ
واَثْرُ يا سَعْدُ زَادْ ** صايِعْ فيهْ اخْـــريفُ.
والكرس الثالث تغنى فيه – هو الآخر- “طلْع” بعضها لاعلي انبيط، كطلعة الإقالة، وبعض آخر لم أقف على اسم – أو أسماء- قائليه، كما تغنى فيه “گفان” من أجملها وأشهرها:
3. وأخيرا طلعة “ابيط” المسماة “طلعة الإقالة”. وسببها أن اعلي انبيط مر أمام “خيمة الفائدة” (خيمة خطري) وهو “إنودر” (يسوس) مهرا له يدعى “البَيِّظْ” وهي تصغير “الأبيظ” بالحسانية (الأبيض) وكانت تظهر على المهر سمات الكرم. فقال له خطري: “ابيط” بعني هذا المهر الكريم أكلف به من يسوسه فيصبح جوادا فارها؛ فأنت لا تعرف سياسة الخيل، وسوف تفسده علينا. قبل ابيط، وأخذ يستمع السوم، فقال له خطري: “هذي اكريكيبه دافْعَ ادّْرارْ” أي على وشك أن تلد، أُغَنْمَيْنْ، أُكَصْرَيْنْ مِن نانْمَه، وادْيارْ (حَلْي) أَمْناتَكْ، وَألْفَيْنْ مِثْقالْ امْنْ الذهَبْ! فَقال “ابَّيْطْ”: بِعْتُك!
أَخَذَ “ابيط” الثمن وأخذ السلطان المثمون!
وبعد مدة غير طويلة جاء ابيط إلى خطري شاكيا ومتضررا، وقال له: “خَطْري بُويَ أنا اندَوْرْ الإقالة! هذي البيعة اخْسِرْت فيها! اكْرَيْكيبَه لاهي تكْتِلْني، امْنَيْنْ تَسْمَعْ لِمْكَتْناتْ لَوْلاتْ تَدْفَعْني فَماقونْ شاكَّه عَن ذا الِّي اعْليها انت. وآرْوَاگِنْ أَمْناتي ضاعوا بيهُمْ اعْگَ الْخِرْفانْ والجِدْيانْ، أُعادِتْ خَيْمْتي كيفْ خَيْمِةْ الگِندايَه! خَطْري بُويَ اغْبَنتْني.. أَعْطينِي الإقالة”!
فالْتفت إليه خطري مفتعلا الغضب، وقال له بحدة مصطنعة: “عاطيك الإقالة، واَگْبَظْ البَيِّظْ، وَاَگْبَظْ اكْرَيكيبَه، وَاَگْبَظ ذاكْ كامِلْ! يَغَيْرْ صُرِّتْ “خُو” (كنية خطري الكبير، الخال) ما اتْلَيْتْ نِتْبايِعْ امْعاكْ!
وأما ألحانه فهي في الكرس الأول “التَّزانَه” و”التّگْرينَه” و”الرَّدْفَه” و”الذنبانَه”. وقد ذكر الشيخ سيدي عبد الله ولد الشيخ المهدي رحمه الله بعضها في “گافه”:
كَرْسَكْ يَغْلانَ ** يَلّي تِلْــــهينا
فيهْ التّزانَه ** افيهْ التِّگْرينَه.
وكان يخاطب ويطري بهذا “الكاف” الفني فنان عصره مولاي اسماعيل ولد ابّاشَه رحمه الله، قبل أن يحوله الفنانان ديمي – رحمها الله- وفريد – أطال الله عمره- إلى ظهر شور حديث!