المرتضى ولد محمد أشفق يكتب “نبض الغروب “
تانيد ميديا : نبض الغروب..
أعذروا صاحبكم في دقة بعض التفاصيل التي يراها الناس اليوم تفاهات، ولغوا من القول، وصنعة أغبياء، وسباحة عبثية في اليبس، فهو لم يبتعد عن ذلك العالم الجميل، عالم تشكل حياته العلمية، وتفتق مراهقته السياسية، وتخلق أفكاره الحالمة…
هو عالم بائس عند المترفين، ومن أبعدتهم حياتهم المخملية عن ماضيهم، ونسوا بحكم الوظيفة، والرتبة، دنيا طفولتهم، وما فيها من لحظات رشد، ونزق، وهدوء، وطيش، وطغوا بمال أو سلطان وتنكروا للأيام التي عركتهم، وصنعتهم، وصاروا يرون الحديث عنها خرفا، وترنحا في أزقة الزمن الموحش، وأي فضول، وأي سخف أشد عند هؤلاء من الاستئناس بشظايا الليالي الراسبة في بحر الغروب…
عاد الطلبة من تونس ذلك العام منبهرين بمستوى الدراسة فيها، أذاعوا في الناس أن الرئيس حبيب بورقيبه رحمه الله قال إن تونس لا تملك نفطا ولا غازا، ولكنها تملك المادة الرمادية، يعني بذلك ثروة الأدمغة…
دشن تلاميذ الأقسام النهائية الأدبية في الثانوية العربية إضرابات عن أساتذة المشرق، ومنهم الشاعر والكاتب فاضل ضياء الدين، ولم تُنْجِ محمود الخضراء إلا فلسطينيته؛ وئدت تلك الحركة في المهد واستدعي أبو سعود (أستاذ تونسي) قصير القامة من الإعدادية العربية لتدريس بعض الأقسام النهائية.
مفارقة أن يقصى فاضل ضياء الدين عن تدريس التلاميذ في المستوى الثانوي، ويعود إليهم طلابا في التعليم العالي..
عاد بوقار شيبته، و جمال شعره، وحسن صوته كلما غنى :
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك …
خفتت تلك الدعاية، وصار أصحابها يروجون بدلها للمنهجية التونسية ولآراء لمسدي ولمهيري..ثم اكتشف الطلبة أن أساتذة المشرق أهل أدب، وذوق، ولغة، تظلمها أحيانا رقة طبع، ولطف زائد يفهمه التلاميذ ضعفا، وفجوة في المعارف..
كان صاحبكم فتى طموحا عشق الأدب صغيرا، مستاء من تفوقه في الرياضيات، والفيزياء، والعلوم الطبيعية…
في الرابع الثانوي شعبة الأدب، وجد نفسه في فصل من أهل بوتلميت، يذكر منه زملاءه محمدي فال ولد بُوّهْ، الذي أرهقه شغبا عندما اكتشف أن له زميلة دراسة قادمة من بوكى تدعى عيساتا بوكم، وأحمدو فال ولد يوسف، كان حسن الصوت خفيف الظل، ومحمد الحسن ولد محمد سعد، وصديق آخر تقاسم معه الحجم طولا وعرضا بالسنتمتر هو يعقوب ولد يوسف الذي انتبه مبكرا إلى أنه كان يطرح أسئلة في النقد سابقة لعمرنا الدراسي، لم ينس محمد ولد باهداه، أسمر اللون مهذب كان من أشد زملائه البوتليميتيين إتقانا للغة الفرنسية، إبراهيم ولد موسى شاب أسمر صبور على طول الصمت، ويذكر أيضا رجلا تلميذا مجتهدا يدعى سعيد كولي جاه، والزميلين الذين جمعه معهما عمل في ثانوية بوتلميت، إبراهيم ولد أبت ومحمد احمد ولد سيد المختار، وغيرهم..يذكر من بنات ذلك الفصل أم الخير بنت يحيى، وفطمة بنت اعل سالم، ومريم بنت ببكر، ومريم وفطمة بنتي الشيخ.. والناها بنت سيدي عثمان، وتلميذة خجولة جدا مثل صاحبنا تدعى البتول..
في الفصل أيضا تلميذ لم ينسه يدعى محمد ولد السالك، يبدو أحسن التلاميذ هيئة، وأنتقهم قامة، خصيب اللحية والعارضين، وقت كانت لحانا وعوارضنا من الأجاديب، هادئ لكنه خرج عن سمته يوم قدمت زميلتنا(س) بحثا أمام التلاميذ في مادة الأستاذ محمدي ولد خيري، وهي تلميذة مهذبة، وجادة، منضبطة حد القرف، ذنبها أنها بلا ذنب، لم تنشغل بمظهر، ولم تأنس بزينة، كأنها اختارت الإقصاء الطوعي من دخول سجل الفاتنات..
جلست زميلتنا في ذلك الصباح واثقة من نفسها، قوية متماسكة، وتلك حال يعوض الله بها من لم يقتنصهن إبليس في شباك غوايته، فلا تجتمع لهن كارثتا عدم الجاذبية وانحطاط المستوى، ولست أدري أي هم دفع زميلنا الهادئ محمد ولد السالك، إلى تطليس السبورة في ذلك اليوم، وحرصه على نفض الطلاسة المشبعة بغبار الطباشير على رأس التلميذة الغائبة في جدها، والاستعداد لإلقاء العرض، تراكم الغبار وأصبح على رأسها كُثيب صغير من الغبار الرمادي يشبه أحد(كرواساهات) فرن حجار، والتلاميذ غائبون في نوبات ضحك …
محمد ولد السالك هذا هو صاحب المقولة(خَلُّو ذِي افْقُودْ العراق اتْكَرِّيكُمْ)، قالها عندما شوش التلاميذ على شيخة من العراق، لم ترزق بسطة في جسم، ولا جمال لتدريس الرياضيات…
لم يكن لصاحبكم شغل أو اهتمام بغير دروسه، ودفاتره فهن حبيباته وهن أوانسه، رغم تهامس التلاميذ فيما بينهم بقصص غرام وردية، بريئة ووهمية، فانقطع لدروسه، واحتفظ بالعلامات الأولى في كل المواد، والحق أنه ما غبن زملاءه في ذلك الفصل بكبير ذكاء، ولا بباهر نبوغ وعبقرية، بل بفضل من الله وباجتهاده، وانشغاله بدروسه، فما كان في حياته شيء آخر…
حان يوم عرض صاحبنا لبحثه حول: (الرجل الذي تخلف عن بيعة الرضوان)، في مادة التربية الإسلامية، حضره مفصلا، ومنظما، ووقف طويلا عند مظهر المتخلف (الجد بن قيس) الذي توارى خلف إبط ناقته، وجمح به البحث إلى الفتنة الكبرى…
لما جلس إلى جانب الأستاذ محمدي ولد خيري، وقد سجل على السبورة منهجية البحث، وفقراته المختلفة، شعر ببعض الإجهاد، وتعرق جبين يعرفه المبتدئون في صنعة الإلقاء..
رئيس الفصل هو زميلي محمد الحسن ولد محمد سعد، وكان مدعوما من المراقبيْن العامين محمد عيسى ولد باباه، ومحمد الإمام، وأذكر أن هذا الأخير كان صارما قليل الكلام…مدير الدروس باركلل رجل أبيض كث اللحية شديد التأتأة ومن الطريف أنه عندما سجل قرار مجلس الأساتذة بتجاوز أخيكم إلى السادس آداب دون المرور بالخامس كرر الجملة الأولى (أُجيز أُجيز) كتابةً مجاراةً لتأتأته…قلت إن رئيس الفصل هو محمد الحسن ولد محمد سعد، زميل طيب يحرص أحيانا على دعوتي إلى أحد الحوانيت لشرب الشاي، ورئيسة الفصل الثاني تلميذة صغيرة تدعى آمنة بنت بهيت…
أغضب رئيس الفصل أستاذ الرياضيات العراقي غازي جمعه، فطلب خلعه، واقترحني مدعوما من الأساتذة خلفا له دون علمي، وفوجئت بالتلميذات وقت دخولي يقلن: وقل جاء الحق وزهق الباطل….وهي الآيات التي قرئت قبل البيان رقم واحد في الانقلاب على ولد داداه، ونحن إذ ذاك على بعد سنة واحدة من ذلك الحدث…
لم تكن لدي رغبة في تلك المهمة التي لم تعمر إلا نصف يوم، لانشغالي بدروسي، ولضعف شخصيتي، وأفشل ذلك الانقلابَ الغيابي العقابي المراقبان الآنفا الذكر، وأعيد رئيس الفصل المخلوع إلى طلاسته وعلبة طباشيره…
-مدير الثانوية العربية هو محمد يحيى ولد فتى، يملك سيارة R4 بيضاء..
-مديرا الدروس باركلل، وولد محبوبي
-المراقبان العامان، محمدعيسى ولد باباه، ومحمد الإمام
وأذكر مراقبين منهم شينه ولد أحمد عبد، وهو رجل متأنق، يفوح منه عطر (بانيته)، يلف على رقبته (حولي من النيله مبروم)، وربما ألقى بطرفه على رأسه، لا يرهق نفسه بالصراع واللجاج مع التلاميذ، وكان بشوشا ملاطفا..
وولد أبنو رجل فاتح اللون، حسن الهندام، تتسلق عارضيه غابة صغيرة من الشيب، لكنه كان يتعهده بحلاقة شبه أسبوعية..
هناك مراقب آخر أكثر نشاطا وشبابا يسمى ولد الددو..
طبعا لا يمكن أن ننسى القسطلاني الذي كان يعشق وظيفته، ومعركة الدخول، وخصام الحارس محمد سالم…
أساتذتي في السنة الرابعة هم:
– نعيم فياض للعربية وهو فلسطيني..
– محمدي ولد خيري للتربية الإسلامية، بعد سنتين صار زميلي في المدرسة العليا للتعليم
– غازي جمعة، عراقي للرياضيات
– تيمور مصري للفيزيا، زوجه متحجبة يدعوها التلاميذ تيموره ويزعمون أنه يستنجد بها كلما فوجئ بسؤال غير منتظر، تدرس نفس المادة للاقسام العلمية
– أبو داود فلسطيني ضخم ممتلئ، زوجه موريتانية يمتلك سيارة بولو حمراء صغيرة
– محمد الأمين ولد الإمام للتاريخ لغته مشرقية..
– حسن حسني عبد اللطيف فلسطيني للجغرافيا، سريع الغضب، عنده دراجة نارية..
– اكروتيى فرنسي، للفرنسية هادئ
– فاطمة بنت الميداح للانكليزية..
وبعد:
تحية لزملائي الذين جمعتني بهم تلك الأيام من سنة 80/79، ثم فرقتنا إلى اليوم، ألتمس منهم العفو، وليذكروا أن ذلك الطفل الخجول، كان يسجل في صمته، وشروده كثيرا من أحاديث الليالي الجميلة…