ما بال بُرات الإنصاف يتقطعن / سعد بوه ولد سيد باب
تانيد ميديا : كانت إماطة اللثام عن أسماء المترشحين للاستحقاقات القادمة بمثابة دكة لجبال بئر ام اكرين، فخرجت الساكنة انتصارا لسيف دولتها ورفضا لوحي الكتلة الصماء تماما كما فعل اليونانيون في القرن الثامن قبل الميلاد حين عبث تعدد الآلهة والملوك والوزراء بحياة شعب أثِينَا ليخرج ادْرَاكُونْ أول مدونة مكتوبة لحكم الشعب وإدماجه في الحياة العامة وتكن بذلك شهادة ميلاد الديمقراطية اليونانية.
تلت ذلك صاعقة بولحراث من مقاطعة باركيول حين تدبر مالكيُّها ما للنائب وما عليه أعرض وتولى مخافة إطفاء أنوار السنة وأن يُغَلِّلَهُ الغُلول يوم يؤتى كل ذي حق حقه. لم يكن سَالُون مسلما لكنه كتب ونفذ لقومه الإصلاحات القضائية والسياسية التي ألغت عنهم عبودية الديون وحررتهم من تبعية الأثرياء والأروستوقراطيين.
مأساة الكتلة الصماء تواصلت فأخرج الساحل اتسوناميا ليغرق آمالها، فأبت انواذيبو إلا أن توفى بالعقود والعهود لتثبت سؤددها بين العواصم الاقتصادية، حذا عزيزها حذو لِيسْتِين اليوناني حين قسم أثينا إلى عشر متناصفات في الفقر والغنى، متساويات أمام القانون ومتكافئات في فرص التنمية الاجتماعية.
هكذا دواليك شملت الديمقراطية امبراطورية اليونان وغدت بها شامخة لتغلب الفرس وما كانت لتنتصر لولا عموم العدل فيها والمساواة.
لم تنحسر في ما ذكر محنة الكتلة الصماء بل كثير من استفاقوا “ثُغُورَ حُقُوقٍ مَا أَطَاقُوا لَهَا سَدّا” ليفتكوا مواقع طال ما تربع على أبراجها العاجية كُزْمُ الجِلاَمِ أعْبَرَ الضّوَائِنَا.
إن في الوقوف على كُنْه المفهوم الديمقراطي وربط أصله بعصره إبانة للعلاقة العضوية بين الفكر الديمقراطي والسياسة فيسترشد الفكر بالواقع لتنعكس السياسة عليه. ملهمو الثورات الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر أشهروا الثلاثية “حكم الشعب بالشعب وللشعب” أنها عماد الديمقراطية وأن القيمة الأولية لها هي العدالة السياسية التي من دونها لا معنى لأي انتخابات.
يقول فيلسوف السياسة الكندي فرانسيس ديبوي ديرى أن ثورة الشعوب البروليتارية كانت تهدف لديمقراطية مباشرة تعتمد التداولية الطريق الأمثل لإدارة المشترك إيمانا منها أن المواطن شريك في الملكية العامة ومساهم في دوائر اتخاذ القرارات الملزمة له. كما يرى أن تغيير حياة الناس لا يمكن إلا بهم وأن ما تزعم الديمقراطية التمثيلية من تغيير للناس دونهم ليس إلا رجوعا لحكم الأرستوقراطيين والمستبدين، واستدل في ذلك بأن المخرِّفين في ممتلكات الشعوب كانوا إلى وقت قريب كلما أرادوا سوءا بشاب ثوري أو وشاية بمعارض وصفوه بالديمقراطي. يقول جون أدامس ثانى رئيس للولايات المتحدة الأمريكية “يعقل أن تكون ديمقراطيا في سن العشرين لكن ليس من الموثوق أن تبقى عليها عند الأربعين”.
لم تكن الثورات الأمريكية والفرنسية موعد تشبب للديمقراطية الأثينية بل طغت على طلاوتها حيث أن عَبَاقِيّة المرحلة بنوا على أطلال الكفر والظلم والاسترقاق الذي تبقى من القرون الوسطى منظومة حكم جديدة ألبسوها رونق التجربة الأثينية لتصبح الديمقراطية الحديثة ورسموا لها الدساتير التي فرض علينا المستعمر استنساخها.
أخرج الغرب من دَيْرِهِ قاموسا للحداثة تخرج الكتلة الصماء منه خطابات قد يستحسنها البعض ويستعذبها الواهنون لكنها ليست إلا مبررا لاستبدال جماجم الأمة وأعلامها بما أنجبت حُبليات الاستبداد لتطويق المواطن على القليل من الكثير والكثير من العدم، وما مثال الفرنسيين اليوم ببعيد عن الأذهان.
النظر الفاحص قد يرى في تأزم القوى المرتدة عن الديمقراطية تحركا إلى مد وطني جديد قادر على إطفاء شعلة الاستبداد والعدمية. تمثلت تلك النزعة التحريرية عند شعبنا في تنمر بعض الشخصيات رفضا للنجاعة والتحقير السياسي كما جَمَحَتْ بعض الكتل والتحالفات الوازنة لتُحَصِّل حِليِّها الديمقراطي وشرعيتها في الوجود بين تهديدات المؤفِّفين وإغراءات الدَّهريين وانتكاسات النافذين.
لكن الكتلة الصماء قد تجد في قاموس الحداثة سردية رسمية جديدة لإثبات علو كعبها في الاستحقاقات القادمة أمام العدسات التي توثق نصر هذا وهزيمة ذاك، لكن الوعي الجمعي مهما كانت نتائج الفرز فتح حربا تدور رِحاها على جبهات الاستبداد والفساد وقد يدوم سِجالها إلى أن تتحقق آمال شعب أنهكته الكتلة الصماء وشعاره في ذلك ما قال أبو فراس الحمداني:
غَيْرِى يُغَيِّرُهُ الفَعَالُ الجَافِى وَيَحُولُ عَنْ شِيمِ الكَرِيمِ الوَافِى
لاَ أَرْضَى وُدًّا إِذَا لَمْ يَدُمْ عِنْدَ الجَفَاءِ وَقِلَّةِ الإِنْصَافِ.