مرآة الروح / رؤية في قصائد وجدانية لمحمد ولد أحمد يوره للناقد السوري زياد محمد مغامس
تانيد ميديا : لا أدري تماماً لماذا عادت بي القصائد الأربعة لأيام مضت ,كنا ننهل فيها من فرائد الشعر القديم , ونقف عند بعض ملابساته أو مفاهيمه , كالأطلال والناقة والنخلة وشعر الكر والفر علاوة على مفاهيم أخرى يحفل بها شعرنا القديم , وعزز هذه العودة ما عشته شخصياً و أنا أجول صحرائنا العربية في مشرقها أو مغربها , بل عشت أمسية شاركت فيها على كثيب , نقلت للمشاركين ليالي عكاظ , كما عادت بي الذاكرة إلى مفاهيم تلقيناها حول معنى المعارضات في الشعر وقد فهمها بعضنا خصاماً ومغايرة , ولم يفهمها مقياساً تحدد من خلاله جودة القصائد , من خلال عرضها على نموذج أصل محتذى أو مجارى , يجاري سنن القدماء في عملية الإبداع . كما تعود بالذاكرة إلى الرمال التي تسفيها رياح الصحراء , وإلى النخل الذي يشمخ هازئاً بالأعاصير , و إلى الناقة والحصان والصاحب العياني أو المتخيل ……..
أود أن أصل من هذا إلى أبيات جادت بها قريحة الشاعر الموريتاني الكبير أمحمد ولد أحمد يوره (انظر الصورة)اتبعه في روحها ومعناها و إيقاعها ثلاثة من الشعراء كما سنبين, وموريتانيا بلد المليون شاعر , جلهم يسير سير القدماء في معاقرة الشعر ذاك العذاب الشهي , جادت بها قريحة الشاعر الذي ذهب في رحلته الأبدية قبل ثلاثة أرباع القرن, نقلتها إلى حلب ذاكرة شاعر موريتاني آخر هو الدكتور الشيخ أحمد دومان , و الأبيات تفصح عن (المدروم)وهو اسم المكان الذي يحتضن الحدث , وهو مكان عزيز على قلب صاحبه , أخذ قيمته الأبدية من قيمة وحب قاطنيه , الشاعر صاحب النموذج الأصل صرخ في الركب, بكى واستبكى , وندم ما شاء له الندم , صرخ صرخة مكلوم في جنبات (نواكشوط) سمع لها صدى في حلب , الصرخة هناك تلاشت في فضاء فارغ من الأحباب لم يجد صارخها الشاعر مؤنساً ولم يسمع لندائه صدى , لذاك لجأ إلى صديق – ربما توهمه – وطلب منه أن يعينه على ذرف الدموع فالعاشقون رفاق هوىً , وقتلى هوىً , قد تخفف دموعهم لوعةُُ , وتطفئ جوىً يستعر , وتفشي سراً , لا يكون الصديق صديقاً إن لم يكن عنده ما يساويه , ونحن لا نروم شرحاً بل نهدف إلى وضع القارئ في الجو النفسي وربما المخيلي الذي عانى من حره صاحب الدفقة الأولى الشاعر ولد أحمد يوره , وسايره في نصه الإبداعي الشعراء الآخرون .
أولهم شاعر الشهباء محمد هلال فخرو , فقد ساير النص الأصل , وأضاف إليه تساؤلاً صريحاً عن ليلاه وميِه اللتين كانتا…..لكن ليلى ذهبت كالوهم , وكانت مي لاهية لا تعبأ بلواعج العاشق المحزون, فأعقب ذلك في نفسه حسرةً وزرع في قلبه لوعةً وترك على وجنتيه كدمات حب , إنه حاكى روح الشاعر الراحل وأحيا مواته وكأنه يقول أنا صاحبه فكرة وموقفاً ولغةً, والشاعر محمد هلال فخرو شاعر عامودي أصيل لم يأخذ بزيف حداثة, لذلك آخى شاعر المدروم – على الغياب – وطلب منه أن يسمح له بالصراخ والنداء والتساؤل والدهشة والحزن ليكونا صنوي هوى.
أما الشاعر الموريتاني الدكتور الشيخ أحمد دومان نزيل حلب , فإنه أقرب في محاكاته إلى النموذج الأصل يبكي له كزميله لأنه يعيش أحزان المكان الذي يعرفه بكل دقائقه , وهو أبن بيئة الشاعر يوره , وهي البيئة التي غذتهما معاً فهاهو يبكي بعيني الشاعر يوره ويماثله في هيامه . ويسأل أرباب المكان فتألم لحاله حسناء عندما رأت دموعه تترى , وحاولت أن ترقأها بتساؤلها وقد رأته يبكي نؤىًَ اندثرت , وحكاية كادت أن تطوي صفحاتها الأيام , ساءلته وساءلها إن كانت تلم بشيء عن شاعر المدروم الذي قطن المكان وكانت له فيه قصة حب سمعها القاصي ووعاها الداني , أقول ساءلها مقتفياً أثر الشاعر يوره مستلهماً روحه قصاً ولغةً وإيقاعاً , وإلماماً بكل جزئيات المعنى بمؤاخاة تصل حد المطابقة .
يمكن لنا أن نقول هنا إن الشعر العربي , – وعلى الأقل في موريتانيا – يعبر عن الوجدان الجمعي الذي يورد المعنى بالروح نفسها , و بجزالة الكلمات نفسها , مثلما تومئ إلى خيال شبه ثابت مستقر لأنه إحدى قوى العقل التي يعي بها الظواهر , ويعبر عنها بملكة شخصية خاصة تجسم حقيقة وتؤلف بين روح الأشياء , وبما أنه شاعر موريتاني كان نداً , لأنه يعرف الحزن والعشق الموريتاني , عن طريق الوجدان المؤاخي بعيد الغور الذي لا يصله إلا قلة من الأشخاص , وفي نصه لوي ذراع الشوق وحاول مماثلة حزن صنوه عله يبرئه أو يخفف من لواعج حبه ….نعم حاول لأنه سار على خطى الشاعر نفسها , وحاكى لغته وألفاظه فحملت لغته عبق الألفاظ الأولى , لكنه عبثاً حاول ولم يجد سوى الكي , فابك يا صاحبي ابك مدرومه الذي أصبح مدرومك , وترانا نقف قرب كثبان الرمل نتمثل الأديم الذي احتضن لواعج العشاق كما أحتضن أجسادهم .
إن الشعر الذي نطقت به شفاه الشاعر الشيخ أحمد دومان ينطق بحقيقة عليا , فيها فلسفة خافية , ولغة شعرية تستطيع أن تحوز على أبعادها, إذا عرفت كيف يفهم الشعر أهلنا في موريتانيا وبأي أفق ولغة يتعاملون معه .
اللغة التي استمعنا إليها في النصوص غلبت عليها الجزالة وفاحت منها رائحة القدم , فجاءت خصبة متماسكة تشغلها ريح الأجداد قبل أن تملأها آفاق الشعراء , وكانت لغة شعرية تحمل نظاماً يجذب الذائقة , ويجعلها تطلب المزيد , وقد أضاف الشاعر الدكتور إلى النص المحتذى بعض النفثات التي كانت إضافة نوعية زادت زادت بها الدفقة الأصل.
أما قصيدة النابغة الرندي شاعر حلب المهندس محمد بشير دحدوح فجاءت على الإيقاع نفسه, بل حملت الروح نفسها كزملائه وهو هنا يعيش في حلب العامرة , في أقصى شمال الوطن, و ذكرفي نصه أرباب الوداد الراحلين,وساءل الريح عله يسمع في نسائمها ما يبل صداه , ولكن من أين ؟ وريح الصحراء حارقة تزيد الحرقة , وتكوي كما يكوي هجر الحبيب الذي بقي له وفياً يشهد على صدق حبه نخل بل سعف نخل المدروم , و ذرات رماله , فإن غاب الإنسان حضرت الطبيعة التي تُسمِعُ نداء الحبيب الواله المنبث في تلك المفازة وها هي الغزالة تدهش لبكاء عاشق أضناه الهوى , و أضر به العشق و أصبح حديثاً تدور به ألسنة الصبايا العاشقات , بعد أن كشف دَمْعًهُ سِرَهُ – ومن يهوى لا يبالي العواقب –صرخة مكلوم موريتاني سمعها محب شهبائي ردد صداها في حلب , ففاح طيب الشعر في المكانين, وعبق الرند في الضميرين , وكانت القفلة مفاجئة إذ طلب شاعر الشهباء الرندي من شاعر المدروم أن يزيد في البكاء لأن شاعراً مثله يبكي على بكائه لأنهما في العشق متحدان فالعالم في رؤيتهما عشق ونحن نتآخى في الحزن وربما نصبح به أكثر رقة وجمالاً به وكانت قصيدته إضافة نوعية ملموحة على قصائد الشعراء تساير الركب وتزيد بهاءه بخصوصية عرف بها الشاعر محمد بشير دحدوح الملقب بالنابغة الرندي بحق .
حفلت النصوص السالفة بدلالات كثيرة منها أن الشعر العربي الأصيل لا يُحَدُ أو لا تُحَدُ معانيه في زمان محدد أو مكان معين فهو لا محدود التأثير , والأمثلة كثيرة قديماً و حديثاً فالشاعر الذي تحدث عن ماض كان الزمان قد حفظ له شعره والذين حاكوه في الحاضر حفظوا تلك الوحدة في المعنى لأنهم انطلقوا منطلقه بدافع شبيه.
كما لوحظ في النصوص تداخل الحسي/الحبيب , و المعنوي/الحب من خلال وحدة فكرية لوحظت فيها مؤاخاة و موضوعية كحدث حول فيها الشعراء الحدث إلى فكرة , نظر كل منهم إليها بطريقة خاصة حللها كما ير يد, بعد أن ادخلها إلى مختبره و حولها إلى نموذج خلق من خلاله عالماً جديداً من الأفكار والكلمات التي شحنت بانفعالات دلت على أن الشعراء اتحدوا في الجو النفسي , ولا يتم هذا إلا عن تمثل تام يعاضد بمعرفة تامة لعملية الإبداع في الشعر وبخاصة القديم الذي ما يزال شعراؤنا يحاكونه لأنه الأصل.
كذلك لوحظ تداخل أو تفاعل بين الذات والموضوع , تداخل روحي تم من خلاله التواصل مع المبدع الأول لغوياً وفكرياً وروحياً , أتفق فيه الشعراء مع شاعر نبت الربيع على دمنته , لكن أفكاره ولغته سرت فيهم بقوة لافتة .
ومن الدلالات…طلُلُ ما يزال يحيا , و يأبى أن يندثر ولو في الذاكرة طلُلُ يتمثل في ذكر من ظعنوا و في مساءلة من درجوا على ذراته وسؤال ملح عن وجهة رحيلهم , فهم الأحبة ولغة تعود برائحتها إلى أجداد عبروا بها عن مشاعرهم و أجادوا رغم فجاءة موقف وصعوبة تمثله لأنها تمد جسراً بين حاضر يرتبط روحياً بماضٍ عبر لغة شديدة التماسك والإيحاء عبرت حروفها عن تكاملِ وتفاعلِ الوجود العربي برمته لأن الزمن يربط عبر اللغة بين حدث عاشه إنسان له وجود وذكرى تلاشت وتركت صوتاً صارخاً وجبيناً يتفصد عرقاً , ولوحظ تماسك داخلي في النصوص جميعها فالبنية الشعرية كانت شديدة الترابط في اللغة و الإيقاع والجو النفسي الملموح في قصائد الشعراء كأن شيئاً روحياً خفياً يربط بين أرواحهم فاللغة تبدو واحدة والوزن والموسيقى واحدة, والآهة مشتركة والتساؤل كذلك , كلها وضعت المتابع ضمن الانفعال المشترك الذي يدفع إلى تساؤل مُلح.
هل يوجد تلاقي في شعر و أرواح شعرنا الحديث كما يحصل في مثل هذا الشعر , يدق فيه الحافر على الحافر سواء في شعر التفعيلة أو في ما يسمى قصيدة النثر , لا يظن هذا لأن في شعرنا القديم الأصيل طاقة مستمدة من وجدان جمعي متواصل كنسيج بدأه القدماء وما يزال يوالي النسج به و الإضافة إليه , بعض الشعراء المعاصرين ويشكل عائداً إبداعياً أصيلاً يعبر عن ذات الفرد المبدع كما يعبر عن ذات الجماعة , لذلك يرى أن الأصل يبقى أصلاً وما الفروع الجديدة سوى فروع لا تسمو سُمو الأصل , وخير ما يقال فيها إنها أبيات تحمل روحاً غربيةً لا تماثل أرواحنا أو أرواح مبدعينا على الأقل وهذا خير دليل على تباعد زماني و مكاني تمخر عبابه أصالة لغوية و فكرية و روحية بمرونة وطلاقة وأصالة تبرز من خلالها النصوص كنص واحد , رغم الفروق في زوايا الرؤية والإتيان بتفرد على بعض الجزئيات التي يمتاز بها شاعر دون آخر بل يكاد أن يقول المتابع إن فلسفة واحدة يعيشها الشاعر العربي الأصيل من أقصى الوطن إلى أقصاه تلمح فيه الخصائص الوجدانية المؤثرة الخاصة للمبدع تطل في ثنايا عمله الإبداعي وهي حركية حسية يُرى أنها ستدوم مهما طلع الأدب علينا كقراء بأجناس أو أشكال جديدة, وأن الخيط الناظم الذي ظنناه انتهى كالأطلال والروح الإنسانية أطل بصوت جديد مستمد من بئر إبداعي زمزمي لكلماته دائما حلاوة و أصالة و إدهاش و رحابة بطانتها وجدانية عربية الجذر و المنشأ والفروع متماسكة متعاضدة بكل ما تحمل اللفظة من معنى . من السالمة بنت محمد حلب سوريا